للصورة سطوتها ومزاجها وقوة حجتها وصدقها وعفويتها أمام ألف كلمة.
الصورة تبقى لاصقة في الذاكرة، لأنها لحظة إمساك بأهداب اللقطة التي لا يمكن أن تتكرر مرتين.
كثير من الصور وثقت لمفاصل هامة في تاريخ البشرية، بعضها أصبح أيقونة فنية وتاريخية لا يأتيها الباطل أو الشك أبدا.
آلاف الصور التقطها مصورون ومستشرقون وهواة وسياسيون وجواسيس ورحالة وفنانون، أرخت و"أرشفت" تاريخ فلسطين قبل نكبة عام 1948، وقبل أي هجرة صهيونية إلى فلسطين، وحتى قبل "وعد بلفور" المشؤوم واتفاقية "سايكس بيكو" التي مزقت الوطن العربي إلى جزر وجمهوريات وإمارات وممالك وطوائف وأعراق ومذاهب.
الصور والوثائق تكذب وتقتلع من الجذور مقولة زعماء الحركة الصهيونية مثل إسرائيل زانجويل وثيودور هيرتزل: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ومقولة حاييم وايزمان: "هناك بلد صدف أن اسمه فلسطين، بلد بلا شعب، ومن ناحية أخرى يوجد هناك الشعب اليهودي وهو بلا أرض، أي شيء يبدو أكثر ضرورة من إيجاد الجوهرة المناسبة للخاتم المناسب لتوحيد هذا الشعب مع ذلك الوطن".
فلسطين كانت دائما، وقبل الهجرة اليهودية وقبل "وعد بلفور" أرضا مأهولة بالسكان تفيض بالحياة الاقتصادية والثقافية والتعليمية والعمرانية.
مشاهد المدن العصرية المكتظة بالسكان، والصناعات وإعلانات الترفيه، والجامعات والمدارس والأندية الرياضية والكشفية، والحركة النسائية المتقدمة جدا في بدايات القرن الماضي والتي تفوق مثيلاتها في الوطن العربي في الوقت الحالي.
كلها صور تقول ملايين الكلمات عن وطن يسكنه شعب أصلي وأصيل، لو بقي دون احتلال ربما كان سيتحول إلى سويسرا أو سنغافورة الشرق، وسيكون وجهة الأموال والاستثمارات العربية والإسلامية، كان سيصبح نموذجا عصيا على التقليد أو المجاراة والمحاكاة.
الصور كشفت حقيقة ما جرى قبل النكبة وأثناءها وما بعدها حين طرد وشرد ما يربو على 750 ألف فلسطيني أصبحوا بين ليلة وضحاها لاجئين. وتشمل الصور والخرائط والوثائق عشرات المجازر والفظائع وأعمال النهب ضد الفلسطينيين، وهدم أكثر من 500 قرية وتدمير المدن الفلسطينية الرئيسية وتحويلها إلى مدن يهودية.
وأيضا طرد معظم القبائل البدوية التي كانت تعيش في النقب، ومحاولة تدمير الهوية الفلسطينية ومحو الأسماء الجغرافية العربية وتعويضها بأسماء عبرية، وتدمير طبيعة البلاد العربية الأصلية من خلال محاولة خلق مشهد طبيعي أوروبي.
وتقول بعض المراجع أن المؤرخ والمفكر القومي قسطنطين زريق أول من استخدم مصطلح النكبة في وصف كارثة تهجير الفلسطينيين يوم الخامس عشر من أيار/ مايو علم 1948، وأصبح المفتاح الذي يحمله الفلسطينيون لبيوتهم التي هجروا منها أحد أهم الرموز التي يعبر الفلسطينيون بها عن تمسكهم بحق العودة إلى الأراضي المحتلة ورمزا للنكبة.
ولم تبدأ النكبة الفلسطينية عام 1948، وإنما قبل ذلك بكثير، ففي عام 1799 خلال الحملة الفرنسية على العالم العربي نشر نابليون بونابرت بيانا يدعو فيه إلى إنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين تحت حماية فرنسية بهدف تعزيز الوجود الفرنسي في المنطقة.
ولم تنجح خطة نابليون في ذلك الوقت إلا أنها لم تمت أيضا، حيث أعاد البريطانيون إحياء هذه الخطة في أواخر القرن التاسع عشر، وتجسد ذلك بداية من عام 1897 حين دعا المؤتمر الصهيوني إلى إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين.
وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى وقيام الانتداب البريطاني في فلسطين بدأت قوى الاستعمار البريطانية بتنفيذ مخططها لبناء "دولة يهودية" على أرض فلسطين.
وفي عام 1917 أعلن "وعد بلفور" لمنح وإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، وجاء "الوعد" في رسالة كتبها وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور إلى أحد زعماء الجالية اليهودية في بريطانيا البارون روتشيلد.
وبعد ذلك توالى توافد الصهاينة إلى فلسطين بدعم من البريطانيين، واشترى اليهود عددا من الأراضي الفلسطينية لبناء مستوطنات صهيونية عليها، ما أدى إلى تهجير عشرات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، بدعم كامل من البريطانيين.
ولم يستسلم الفلسطينيون أمام هذه التحركات، وأدت جهود المقاومة في عام 1936 إلى قيام ثورة عربية كبرى ضد الاستعمار البريطاني والاستيطاني الصهيوني، ووجد الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة عدوين: قوات الاستعمار البريطاني والعصابات المسلحة الصهيونية التي وصل عددها إلى 40 ألف شخص في ذلك الوقت.
في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947 أقرت الأمم المتحدة خطة لتقسيم فلسطين إلى دولتين "يهودية" و"عربية"، وشكل اليهود في فلسطين وقتها ثلث السكان، أغلبيتهم قدموا من أوروبا خلال السنوات القليلة التي سبقت هذا التاريخ، وكانوا يسيطرون على مساحة تصل إلى أقل من 6% فقط من دولة فلسطين التاريخية، إلا أن الخطة المقترحة من قبل الأمم المتحدة خصصت لهم 55% من المساحة.
رفض الفلسطينيون والعرب الخطة المقترحة، بينما وافقت عليها الحركة الصهيونية، خاصة أنها أضفت صفة الشرعية على فكرة بناء "دولة يهودية" على أرض فلسطين العربية إلا أنها لم توافق على الحدود المقترحة، ولذلك أطلق الصهاينة حملات مكثفة للاستيلاء على المزيد من أراضي فلسطين التاريخية.
ومع بداية عام 1948 سيطر الصهاينة على عشرات المدن والقرى الفلسطينية وطردوا سكانها الفلسطينيين من بيوتهم بالقوة، وذلك تحت أعين سلطات الانتداب البريطاني.
وفي 14 أيار/ مايو عام 1948 قرر البريطانيون إنهاء فترة انتدابهم لفلسطين، وفي اليوم نفسه الذي انسحبت فيه قوات الانتداب البريطاني رسميا من فلسطين، أعلن رئيس الوكالة الصهيونية ديفيد بن غوريون إقامة "دولة إسرائيل".
وخلال دقائق قليلة اعترفت أكبر قوتين من قوى العالم، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، بـ"إسرائيل"، وأصبح الفلسطينيون بلا دولة وشعب نصفه محتل والنصف الآخر لاجئ.
وتوالت بعد ذلك خطط الصهاينة لتطهير أرض فلسطين من سكانها، وبذلوا قصارى جهدهم لمسح التراث والتاريخ والثقافة الفلسطينية من الوجود، وأفرز هذا الوضع معاناة ممتدة لملايين اللاجئين الفلسطينيين.
كان يوم الخامس عشر من أيار/ مايو عام 1948 يوما استثنائيا بالنسبة للفلسطينيين والعرب عموما فقد شهد ثلاثة أحداث كبرى هي: زوال اسم فلسطين عن الخارطة السياسية والجغرافية، وقيام "دولة إسرائيل"، وبدء الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى والصراع العربي-الإسرائيلي.
وتتزامن الذكرى السبعين للنكبة مع حدث استفزازي للغاية حيث حدد يوم النكبة موعدا لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة بناء على "وعد" قطعه على نفسه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكأنه يعيد تجديد "وعد بلفور".
وكان أول رئيس لـ"الدولة العبرية" ديفيد بن غوريون يقول: "لو كنت رئيسا عربيا، لما وقعت على اتفاقية مع إسرائيل أبدا. إن هذا أمر طبيعي، لقد سلبناهم أرضهم. إنها حقيقة أن الرب وعدنا بها، لكن كيف لذلك أن يثير اهتمامهم؟ ربنا ليس ربهم. لقد كان هناك اللاسامية، النازيون، هتلر، لكن هل ذلك كان خطأهم؟ إنهم لا يرون إلا أمرا واحدا فقط، أننا جئنا وقمنا بسرقة بلادهم، لماذا يقبلون بذلك؟".
لكن ما يجري على الأرض في ظل ذكرى النكبة لا يوافق وصية ونبوءة بن غوريون، فالعرب يتهافتون على أبواب "إسرائيل"، بحثا عن رضاها ودعمها لهم ضد منافستهم إيران وحفاظا على مكتسبات "سايكس بيكو"، حتى لو استدعى الأمر دفن القضية الفلسطينية في بئر بلا قرار والتنكر للقدس العربية ومصادرة حق العودة للاجئين.
الصور مرة أخرى تكشف عن تحول "تل أبيب" إلى مربط خيل بعض الأعراب، وهي صور حقيقية ولكنها تقطر بالخزي والإحساس بالضآلة.