يحيي
الفلسطينيون منذ 70 عاماً ذكرى النكبة، مؤكدين تمسكهم بالأرض والحقوق وثباتهم على الثوابت والعهد والمسار، لكن هذا العام كان مختلفاً جداً. احتفال صهيوني بنقل السفارة الأمريكية للقدس اعترافاً بها عاصمة موحدة للكيان، و58 شهيداً و2771 جريحاً على حدود غزة مع فلسطين المحتلة في مسيرات العودة: مشهدان جعلا من ذكرى النكبة هذا العام حدثاً استثنائياً لفت الأنظار إلى الخذلان التي تعانيه القضية الفلسطينية.
وفي ظل صمت عربي يتراوح بين الخوف والعجز والتواطؤ، لاحت في الأفق مواقف متقدمة نسبياً من بعض الدول، في مقدمتها جنوب أفريقيا التي سحبت سفيرها من تل أبيب، وتركيا التي أعلنت عن حزمة من المواقف والإجراءات؛ احتجاجاً على نقل السفارة و"المجزرة الدنيئة" التي نفذتها دولة الاحتلال، وفق تعبير رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم.
بداية على لسان الناطق باسم الحكومة بكير بوزداغ، ثم بتفصيل أكثر على لسان الرئيس أردوغان في مؤتمر صحفي عقده في لندن، أعلنت أنقرة عن سلسلة من القرارات، أهمها:
أولاً، وصف الجريمة الصهيونية بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي، والكيان الصهيوني بأنه دولة إرهاب.
ثانياً، إعلان الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام على أرواح شهداء قطاع غزة.
ثالثاً، استدعاء السفيرين التركيين في كل من واشنطن وتل أبيب للتشاور.
رابعاً، دعوة منظمة التعاون الإسلامي لاجتماع طارئ يوم الجمعة.
خامساً، اجتماع البرلمان التركي اليوم الثلاثاء للتداول بشأن
القدس وغزة.
سادساً، تنظيم مظاهرتين شعبيتين ضخمتين: الأولى في إسطنبول يوم الجمعة، والثانية في ديار بكر يوم الأحد.
اختصر أردوغان إجراءات بلاده بالقول إنها "لن تسمح بأن يسجّل اليوم على أنه اليوم الذي خسرنا فيه القدس"، وتطرّق إلى جهود دبلوماسية وأخرى إغاثية تعمل عليها أنقرة.
كالعادة، أثار الموقف التركي الجدل بين من يراه متقدماً ويشكر أنقرة عليه، وبين من يراه دون مستوى الحدث ويطالب بالمزيد، ولعل العامل المشترك بينهما هو سقف التوقعات المرتفع من
تركيا. فتركيا هي الدولة المسلمة الإقليمية القوية، والرئيس الدوري لمنظمة التعاون الإسلامي، والتي تملك علاقات سياسية ودبلوماسية مع دولة الاحتلال، وتعوّد الناس من قياداتها، وخصوصاً أردوغان تصريحات عالية السقف ومواقف متقدمة. فكيف يمكن فهم الموقف التركي وتقييمه؟
لا شك بأن خطورة القرار الأمريكي بخصوص السفارة، وبشاعة الجريمة الصهيونية في غزة، وشجاعة الفلسطينيين وصمودهم، تجعل من كل ردود الفعل والقرارات متواضعة أمامها، إذ لا يمكن تخيل تمتع الكيان الصهيوني بعلاقات مستقرة وممثليات دبلوماسية مفتوحة في بلدان عربية وإسلامية بعد كل ما فعل ويفعل. وفي يوم استثنائي الخطورة والبطولة والتضحية والبشاعة والألم، تبقى الكثير من القرارات بعيدة عما يرضي الجماهير ويشفي غليلها؛ ويرد على العنجهية الصهيونية والصفاقة الأمريكية.
بيد أنه ينبغي تقييم الموقف التركي وفقاً لاعتبارات مؤثرة، في مقدمتها:
أولاً، تاريخ العلاقات بين أنقرة وتل أبيب منذ 1949 الذي ورثه العدالة والتنمية.
ثانياً، سقف أنقرة السياسي بخصوص القضية الفلسطينية القائم على حل الدولتين.
ثالثاً، أنها حزمة قرارات "مبدئية" اتخذت كرد فعل "أولي" على الحدثين.
رابعاً، المواقف التركية السابقة وظروفها وسقوفها.
خامساً، المواقف المتخاذلة و/أو المتواطئة لعدد من الدول العربية والإسلامية المؤثرة، بما يجعل الموقف التركي شبه وحيد.
وفق هذه الاعتبارات، يمكن القول إن الموقف التركي متقدم بالمقارنة مع مواقف أطراف كثيرة، ويُقبل باعتباره موقفاً أولياً ينبغي البناء عليه. فما الذي يمكن لأنقرة فعله لتطور من موقفها اقتراباً من الحدث؟ بعض الأمثلة قد تكفي في هذا السياق:
الأول، عدم إعادة السفير إلى تل أبيب.
الثاني، تخفيض التمثيل الدبلوماسي للكيان الصهيوني.
الثالث، استصدار قرارت جادة وحقيقية من اجتماع منظمة التعاون الإسلامي الطارئ، يتعلق بعضها بموقف جاد من الدول التي تفكر في نقل سفاراتها للقدس، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وبعضها الآخر بالوضع الإنساني في القطاع، وخصوصاً لجهة الحصار والعقوبات.
الرابع، الحيلولة دون تمكن دولة الاحتلال من النجاح في مسار التطبيع الشعبي والثقافي بعد عودة العلاقات الدبلوماسية في 2016، وهذا يشمل عدة مجالات وقطاعات.
الخامس، المقاطعة الأكاديمية للكيان الصهيوني، أسوة بعدد كبير من دول العالم.
وقد أشار الرئيس التركي إلى بعض الإجراءات المتعلقة بالوضع الإنساني وإرسال مساعدات، وهي إجراءات مطلوبة ومن الضروري تسريعها، لكن البعد السياسي للحدثين في القدس وغزة ينبغي أن يحظى بالاهتمام الأكبر.
إن الأوضاع المرشحة للاستمرار والتفاقم من جهة، ودخول شهر رمضان من جهة ثانية، وبدء الحملات الانتخابية في تركيا من جهة ثالثة، قد تتيح الفرصة لمساحة زمنية مناسبة لتطور وتطوير الموقف التركي، المرشح لأن يكون رافعة العمل العربي والإسلامي الرسمي المشترك مانحاً تركيا الريادة في هذا المجال.
لكن، لا ينبغي تجاهل حقيقة أن الحدثين أكبر بكثير من إمكانات أي دولة لوحدها، وأن الأجندة التركية المزدحمة داخلياً وخارجياً تحد من سقف أنقرة ومقاربتها، وهو ما يطرح مرة أخرى أهمية الشراكات التي تبحث عنها الأخيرة، وضرورة تكامل الدور التركي مع أدوار أخرى، عربية وإسلامية.
يدرك الأتراك أن خطوة نقل السفارة ليست مجرد حدث عادي أو مرتجل، وأن ارتداداتها لن تقتصر على الفلسطيينين وحدهم، ويعلمون بالتأكيد خطورة ذلك على فلسطين والمنطقة، ويستشعرون حتماً مدى الآمال المعلقة عليهم والأنظار المتطلعة لهم، ما يمكن أن يساهم في تطوير الموقف وتغذيته بقرارات عملية إضافية، خصوصاً إذا ما كانت بعض الدول العربية والإسلامية على قدر الموقف وحساسيته، بما يفتح المجال على قرارات وتحركات جماعية توسّع من إمكانات الفعل وتضخّم من عائد النتائج، فالرجال مواقف والتاريخ سيكون شاهداً لها أو عليها.