تلحُّ تحليلات سياسية عربية على توصيف السياسات
التركية الخارجية تجاه العالم العربي بأنها تستبطن موروثات الحقبة
العثمانية، وتحن
إليها كثيرا، وتسعى بصمت لبعثها من جديد.
ويبدي كتاب ومحللون عرب تخوفهم من تلك النزعة
التركية الرامية إلى بعث أمجاد "العثمانية"، بوصفها حالة استعمارية بسطت
نفوذها وهيمنتها على العالم العربي إبان حكم الخلافة العثمانية بحسب توصيفهم لها،
فهل واقع السياسة التركية هو كذلك أم أنه توصيف يصدر عن مواقف مسبقة في قراءة
المشهد التركي؟
وإجابة عن السؤال السابق رأى الكاتب والباحث
المصري، هاني نسيرة أن وصف
أردوغان في سياساته الخارجية تجاه العالم العربي
بـ"عثماني النزعة، وأنه يتحرك بمقتضاها، لا يعدو أن يكون ناتجا عن موقف مسبق،
يستهدف في جملته توظيف المشاعر العدائية الرافضة للعثمانية، والأتراك والخلافة عند
بعض التيارات".
وأضاف لـ"
عربي21": "لكن هذا لا
ينفي في واقع الأمر تأثر أردوغان بها، وتحركه بمقتضاها كمشكل رئيس للهوية التركية الراهنة، وجزء من موروثه القومي، الذي
يظهر مدى اهتمامه واعتزازه به، بل ودفاعه عنه".
وتابع نسيرة حديثه بالقول: "وقد اتضح ذلك
في موقفه من قبر السلطان سليمان في
تركيا قبل عامين، وكذلك ما يقال عن مرجعية
أردوغان الفكرية في بعدها الإسلامي، لكنه رغم كل ذلك يبدو واقعيا وبراجماتيا،
فمواقفه تتحدد بحسب مصالحه، ومواقف خصومه".
ولفت نسيرة إلى أن سياسات أردوغان ومواقفه
محكومة بتقديراته للمصلحة، فالرجل براجماتي وواقعي في سياساته بنسبة أعلى وأكبر من
كونه مؤدلجا، كعلاقته مع روسيا بعد إسقاط الطائرة الروسية، وكذلك علاقاته مع إيران
وإسرائيل.
ووصف نسيرة أردوغان بأنه "كثير التناقضات
والتقلبات" مرجعا ذلك إلى "خطابيته من جهة، وتوترات المنطقة
واستقطاباتها الحادة من جهة أخرى، لكنه في النهاية ممسك بزمام الأمور، ويعرف كيف
يحافظ على مكاسبه، وكيف يواجه تحدياته"، على حد قوله.
من جهته أبدى الباحث السوداني، المقيم في إسطنبول، عباس محمد صالح عباس تحفظه الشديد على "وصف السياسة التركية بعد
وصول حكم حزب العدالة والتنمية إلى الحكم منذ 2002 بالعثمانية الجديدة"،
واصفا إياه "بغير الدقيق".
ووفقا لعباس فإن "الحديث عن عثمانية جديدة
كما يروج له في بعض وسائل الإعلام العربية المعادية لتركيا، إنما يصدر عن مواقف
سياسية، وليس عن حقائق ثابتة، أو توصيف علمي أو موضوعي، وتدحضه الأدلة
والقرائن".
ولفت عباس إلى أن السياسة التركية الخارجية
"تقوم على مفاهيم التعاون والتبادل والحوار البناء، والمصالح المشتركة بعيدا
عن الاستعمار والخضوع، إن كان هذا هو المقصود من وراء استخدام هذا المصطلح، الذي
عادة ما توصف به حقبة العثمانية في أوساط عربية".
وتابع حديثه لـ"
عربي21": "لو
نذكر قبل اندلاع ثورات الربيع العربي فإن تركيا مدت جسور التواصل مع كافة جيرانها،
بما في ذلك البلدان العربية التي تعادي تركيا، وتروج لمزاعم غير دقيقة عن
سياساتها، من أجل تصفير المشكلات، وإقامة علاقات على أسس جديدة أُطلق عليها
"العمق الاستراتيجي"، وليس العثمانية الجديدة".
وردا على من يستشهد بالتدخل التركي العسكري في
سوريا باعتباره دليلا على إحياء النزعة الاستعمارية العثمانية، أوضح عباس أن
"تدخل تركيا في سوريا كان من منطلق الحفاظ على الأمن القومي التركي، الذي
كانت ستقوم به أي حكومة تركية أخرى غير حكومة العدالة والتنمية الحالية، وكذلك أي
رئيس غير أردوغان، كما يمكن أن تقوم به أي دولة أخرى تجد نفسها مهددة بشكل
مباشر".
وبحسب عباس فإن "التدخل العسكري التركي في
سوريا لا ينطوي على توجهات وأبعاد استعمارية، فتركيا لا تسعى لضم أراض سورية أو
احتلال أجزاء منها، أو البقاء هناك لفترات تتجاوز القضاء على مهددات أمنها القومي
هناك".
بدوره قال أستاذ العلوم السياسية في الجامعة
الهاشمية الأردنية، جمال الشلبي: "لكل دولة إرثها التاريخي الذي تستذكره
وتستحضره في واقعها وعلاقاتها، وتركيا ليست بعيدة عن ذلك، فقد حكمت العالم العربي
لعدة قرون، حتى سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، وليس هذا مما يعيب تركيا".
وجوابا عن سؤال "
عربي21": هل تسعى
تركيا حاليا لبعث أمجادها العثمانية من جديد؟ استبعد الشلبي توجه تركيا للعب دور
مماثل لما كانت عليه إبان الخلافة العثمانية، حين كانت تتمتع بالشرعية الدينية
والشرعية الشعبية الواسعة، مضيفا: "وإذا ما استحضرنا تغير الظروف بشكل جذري،
كقيام الدولة الوطنية القطرية العربية، وتعقد المعادلات الإقليمية والدولية، فإن
ذلك التوجه يغدو أشبه ما يكون بالمستحيل".
ولفت الشلبي إلى ضرورة التمييز بين الاستعمار
الأجنبي الذي تقلب على عالمنا العربي، كالاستعمار البريطاني والفرنسي، والإيطالي..
وبين الحكم العثماني للعالم العربي إبان الخلافة العثمانية الذي لم يكن استعمارا،
لأن العرب كانوا جزءا لا يتجزأ منه، وكانوا يشاركون الأتراك في الحكم وإدارة
البلاد.
وتساءل: لماذا كل هذا التخوف من الدور التركي
الحالي ووصفه بالاستعمار وما إلى ذلك؟ مبينا أن تركيا دولة إقليمية مهمة وقوية،
وتتمتع باقتصاد قوي على المستوى الإقليمي والدولي، وهي صاحبة رؤية ومشروع، ومن
حقها السعي لتطبيق تلك الرؤية، وإنجاز ذلك المشروع؟
وختم الشلبي حديثه بالثناء على التجربة التركية
الحديثة، التي يجب على العرب الإفادة منها لتشكيل رؤيتهم الخاصة بهم، وبناء
مشروعهم القومي في المنطقة، للخروج من حالة الضعف والتخلف والتبعية المزرية التي
تحكم سياساتهم وقراراتهم.