تتعاقب الأحداث بشكل لافت في المنطقة العربية، خاصة في منطقة الخليج، حيث لا تزال التداعيات اللاحقة لأزمة الخليج تتفاعل ارتداديا، لتُحدث طبقة جديدة من الوعي الناتج عن انكشاف عناصر جديدة حققت طفرة كمية ونوعية في تعريف الجمهور العربي لطبيعة المكونات ولوظيفتها محليا وإقليميا وحتى دوليا.
واليوم، تهرول مجموعة الحصار وعلى رأسها السعودية نحو التطبيع العلني مع الكيان الصهيوني، بعد الجولة الأخيرة لولي العهد إلى الولايات المتحدة، التي سبقتها صفقات بالمئات المليارات من الدولارات تباهى ترامب بعرضها على وسائل الإعلام.
في مصر يعلن السيسي عن إحكام قبضته على الدولة وعلى المؤسسات بعد الانتخابات المهزلة التي نقلتها وسائل الإعلام، وتميزت بعزوف كبير من المواطنين.
الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها الرئيس الانقلابي بنسبة تفوق تسعين في المئة، تؤكد اندراجه في مسرحيات الاستبداد التي يفوز فيها الحاكم المطلق بنسبة مطلقة مع غياب تام للمنافسة.
رحبت كل الدوائر الدولية بنتائج الانتخابات المصرية، وبفوز الرجل الذي راهنت عليه من أجل تأبيد الاستبداد والقمع في مصر، ومن أجل إبقاء الدولة المصرية تحت الوصاية الصهيونية.
أما الإمارات، فكانت اللاعب الخفي الذي هندس جزءا كبيرا من المشهد، لكن من وراء الستار، بأن مولت ودعمت موجات الثورة المضادة، ونجحت في الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في مصر.
هذا المشهد الذي يفسر في جزء كبير منه طبيعة التحالفات في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، لا يكف عن التطور نحو مزيد من الانكشاف والتعرية.
كان أهم حدث أعقب الثورات العربية على الصعيد الإقليمي حصار قطر، بعد فشل الانقلاب التركي.
بناء عليه، فإنه يمكن اليوم رسم خط الانقلابات على النحو التالي: أولا، كان الانقلاب على الثورات العربية عبر المذابح التي عرفتها مصر، والمؤامرات التي شهدتها ليبيا، وإجهاض الثورة السورية، والتآمر على الثورة التونسية، بأموال إماراتية أساسا وتوجيه سعوي، ورعاية دولية طبعا.
أما المرحلة الثانية، فتمثلت في ضرب خطوط الإمداد التي ساهمت في تعطيل الانقلاب السريع على التجارب الثورية حيث شكلت تركيا وقطر هدفين أساسيين كانت الإطاحة بهما ستساعد في خنق الثورات وفي قطع الامدادات عنها.
لكن هذه التجربة باءت بالفشل في تركيا أولا، ثم في قطر، وهو أمر لم يلغ خطة الدولة العميقة، ولكنه سرّع في وتيرة إنجازها.
أي أن المنظومة العميقة للبناء الاستبدادي العربي سرّعت من وتيرة التنازلات التي كانت مقررة حتى قبل الربيع العربي والتي خرجت إلى العلن عبر "صفقة القرن" وتسليم القدس والقضاء على المقاومة في فلسطين ورهن الثروات العربية كاملة.
إن انقلاب مصر وحصار قطر وتدمير التجارب الثورية رغم طابعها السلمي، إنما تدخل جميعها في إطار ردة الفعل الاستبداد العربي، من أجل منع كل تغير جوهري في نظام الحكم بالمنطقة.
هذه التطورات التي نشهدها اليوم، إنما تستمد شرعيتها طبعا من قوى خارجية هي التي أتت بهذه الأنظمة إلى السلطة، أي أن الفعل الاستبدادي العربي اليوم لا ينفصل مطلقا عن الفعل الاستعماري الخارجي.
لم يكن للانقلاب على ثورات الربيع أن يتم دون ضوء أخضر خارجي وكذا كان انقلاب تركيا برعاية المنظومة الاستعمارية العالمية. أما حصار قطر فقد كشفت التسريبات والتسريبات المضادة مؤخرا أنه كان بمباركة خارجية خاصة من خلال ما رشح من معلومات عن تحركات صهر الرئيس الأمريكي "غارد كوشنار".
لكن من جهة أخرى، إذا كانت القوى الدولية قد رسمت الحدود التي يمكن للنظام الرسمي العربي التحرك داخلها، فإن هذه الحدود تبقى حدودا مفتوحة أي أنها تتأقلم مع المستجدات الحادثة التي قد تطرأ بين حين وآخر.
قبلت القوى الدولية مثلا بكل المشاريع العربية التي قُدمت والتي تستوعبها المخططات الدولية فحينما قدمت الإمارات مشروع حصار قطر باعتباره جزءا من صفقة القرن نالت الخطة موافقة بعض الأطراف الدولية.
فحصار قطر إنما الهدف منه هو عزل العنصر "المشاغب " أو "الشاهد المزعج" الذي قد يصعب من المهمة ويُفشل الخطة الأمريكية في شقها المتصهين الذي يقوده كوشنر، وبعض الصقور في الإدارة الأمريكية، من الذين لم يروا مانعا في تركيب المشاريع بعضها بجانب بعض ما لم تتناقض أهدافها.
تأسيسا على ما تقدم، تظهر للقارئ العربي والملاحظ الخارجي جملة من المعطيات والدلائل التي تفضح المشهد وتعريه.
أهم هذه المعطيات هي تكامل البنائين الاستبدادي والاستعماري الجديد في الفعل وفي الأداء على الأرض العربية وداخل المجال الخليجي بشكل خاص حيث تتكدس الثروة وتكاد تختفي المعارضة السياسية.
فالمشروع الاستعماري إنما يتناغم ويتكامل مع المشروع الاستبدادي العربي بشكل خرج إلى العلن واضحا لأول مرة بعد الربيع العربي، خاصة إثر موجة الثورات المضادة.
فإذا كان التنسيق سابقا يتم بشكل سرّي بين النظام الرسمي العربي وبقية القوى التي تعد عدوا استراتيجيا محتلا للأرض ومهددا للعقيدة خلال عقود، فإن التنسيق اليوم صار على العلن بشكل يُغير من طبيعة معادلة الوعي بين النظام السياسي من ناحية وبين الجماهير الشعبية من ناحية أخرى.
لم يعد الحاكم العربي يكترث كثيرا لردود الفعل الشعبية خاصة بعد موجة الاعتقالات التي طالت كل المعارضين في الخليج وبعد كل المجازر التي ارتكبت في حق الشعوب منذ مذبحة رابعة وصولا إلى مذابح الغوطة الأخيرة في سوريا.
وهو يعول على وسيلتين أساسيتين بعد الغطاء الدولي الخارجي طبعا. أولهما الآلة القمعية الباطشة وثانيها التضليل الإعلامي وشراء الولاءات و الذمم.
التوجه الجديد ينبئ بأن المواجهة القادمة بين المنظومة الاستبدادية العربية وبين الجماهير الشعبية لن تكون كما كانت قبل الربيع العربي لسبب جوهري يتمثل في تغير طبيعة الوعي العربي القاعدي.
والتطور الجديد في الوعي العربي الجماهيري هو الذي سيكون حاسما في قادم الأيام، وهو في نظرنا أهم مكاسب الربيع وثوراته المباركة بلا منازع.
25 مليون ناخب.. وبودرة العفريت
كم "ابن سلمان" مر علينا وعبث بديننا؟