التفجير الذي استهدف الثلاثاء الماضي (13 آذار/ مارس) في قطاع
غزة؛
موكب رئيس الوزراء الفلسطيني ومدير المخابرات العامة، لم يكن لينفتح إلا على الاحتمالات الأسوأ، وذلك بالنظر إلى الطريقة التي تُدار بها العلاقات الوطنية الداخلية. فبعد أسبوع فقط على الحادثة، اتهم
الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس؛ حركة
حماس بتدبير التفجير، رافضا أيّ تحقيق، ومعلنا إجراءات "وطنية وقانونية ومالية" قال إنها للحفاظ على المشروع الوطني. ومن سياق هذا الإعلان يمكن الاستنتاج أنها تتعلق بالخصومة مع حركة حماس، وبإدارة الأخيرة لقطاع غزّة.
وبصرف النظر عن استناد الرئيس في اتهامه إلى ما قال إنها تقاليد حركة حماس التي تقوم على القتل والاغتيالات، راجعا في التاريخ كثيرا إلى الوراء، وإلى الحوادث التي اتّهمت بها (أو قامت بها) جماعة الإخوان المسلمين في مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، فإنّ
حركة حماس من الناحية الفعلية هي أكثر المتضررين من هذا الانفجار، الذي لم يُطلق رصاصة الرحمة على جهود المصالحة الأخيرة ويستجلب إجراءات جديدة ضدّ قطاع غزّة؛ فحسب، ولكنه بالإضافة إلى ذلك وجّه ضربة قاسية لسمعة حركة حماس الأمنية، ولقدرتها على إدارة قطاع غزّة، وتمسكها بسلاحها وترتيباتها الأمنية، بما في ذلك الأنفاق. وبتعبيرات
الفلسطينيين الدارجة، كان ذلك الانفجار "تعليمة على حركة حماس"!
وفي كل الأحوال، وبالرغم من أنّ هذه المصالحة وُلدت في جولاتها الأخيرة ميتة، وبالرغم من أن خطاب الترويج الإعلامي لتلك المصالحة، وما ضخّه من آمال عُلّقت عليها، كان مبالغا فيه، لاسيما من قيادة حماس الجديدة، في حين كانت قيادة السلطة، التي هي قيادة
فتح، حذرة ومتحفظة من البداية، بالرغم من ذلك، فإنّ مجرد السعي في المصالحة، والتخفيف من التصعيد الإعلامي، ومن انشغال الفلسطينيين ببعضهم، هو أمر جيد، وإن كان بالغ التواضع، ولا يرقى إلى ما ينبغي أن يكون عليه الموقف، لمواجهة المخطط الأمريكي الذي (وفي استثمار للتردي الحاصل في الإقليم العربي، وغير المسبوق في سوئه وقبحه) يروم الآن تصفية القضية الفلسطينية، ضمن سقوف أوطأ من كل تلك السقوف التي قبلت بها من قبل قيادة منظمة التحرير.
يعني ذلك بالضرورة، أن الإحباط هو الشيء الوحيد الذي يناله الفلسطينيون من أيّ خطاب تصعيدي أو توتيري، بيد أن التصعيد الخطابي والسياسي، والتخلّي عن المسؤوليات الوطنية تجاه قطاع غزّة، ضمن ثنائية إما التمكين الكامل للسلطة الفلسطينية، أو قيام حماس بمسؤولياتها كاملة ثمنا لسيطرتها الأمنية على القطاع، لا يصبّ في الحقيقة في صالح تصورات السلطة المعلنة حول صفقة القرن، وموقع قطاع غزّة منها.
بأحسن ما يمكن قوله من تحليل يتوخّى تلمس المسؤولية الوطنية في خطاب السلطة ومواقفها؛ يمكن الذهاب إلى أن قيادة السلطة تستشعر أن الدفع الأخير الذي قادته مصر نحو المصالحة، يندرج في صفقة القرن التي قد تحتاج إزاحة للقيادة الفلسطينية الحالية، ومن ثمّ فحماس بشكل أو بآخر (بحسب تصورات قيادة السلطة) مشتركة عن وعي أو باستدراج في هذا المخطط.
ويمكن لقيادة السلطة أن تُعزز مخاوفها هذه بانفتاح مصر المحدود والمدروس على قيادة حماس، وترتيبها لتفاهمات تجمع قيادة حماس بتيار محمد دحلان، أبرز خصوم قيادة السلطة، بالإضافة لجملة عناصر أخرى، منها المؤتمر الأخير الذي عُقد في واشنطن "لبحث الأزمة الإنسانية في غزة"، وما يقال عن استعداد الإمارات، راعي محمد دحلان، لتمويل مشاريع إنمائية واستثمارية في غزّة، بل قيل إن وليّ العهد السعودي طلب من الرئيس الفلسطيني التصالح مع دحلان وإرجاعه لقيادة فتح!
والحقّ أن الرئيس الفلسطيني في خطابه الأخير كان واضحا في تشكيكه في دوافع جهود المصالحة الأخيرة ومن يقف خلفها. لقد قال الرئيس بشكل واضح إن هذه المصالحة من ضمن مخططات ترامب، أو كما قال بالحرف: "نريد عودة لقطاع غزة للأم، عودة كريمة، وليس كما يريدون، وليس كما يخططون هم وترامب وغيره. هذه كلها تخطيطات عرفناها منذ البداية، وقلنا لكم كيف بدأت هذه المصالحة الأخيرة ومن الذي اخترعها"، لا يعني ذلك سوى أن الرئيس كان متخوفا من البداية من سياقات هذه المصالحة، والدور المصريّ فيها. فالمصريون هم الذين بدؤوها و"اخترعوها"، ويفسّر ذلك تحفّظ الرئيس وقوله من البداية "أنا مش مستعجل".
لكن الذي يشوّش على هذا التحليل الذي ينطلق من حسن الظنّ، ويتوخّى المسؤولية الوطنية في خطاب السلطة وموقفها من حركة حماس والمصالحة وإدارة قطاع غزّة، أن الانصراف الكامل عن المصالحة، والعودة إلى خطاب التصعيد، ومضاعفة إجراءات التخلي عن تمويل قطاع غزّة، وما سوى ذلك من إجراءات "وطنية وقانونية ومالية" (بحسب تعبير الرئيس) سوف يؤدّي غالبا إلى الدفع نحو فصل غزّة. فإذا كانت قيادة حركة حماس، بوعي منها أو باستدراج لها، تسير في مخطط فصل قطاع غزة وإقامة دولة عليه منفصلة عن المشروع الوطني، فالسؤال المطروح: لماذا تدفعها قيادة السلطة لذلك، طالما أنّ هذه الأخيرة تُحذّر من ذلك، بل وتتهم حماس بذلك؟!
لعل قيادة السلطة تعتقد أن التخلّي عن مسؤولياتها تجاه غزّة، والتصعيد تجاه حركة حماس، يحقق جملة من المصالح، التي منها تأكيد الحضور والدور والقدرة على الفعل والتأثير، ودفع غزّة للانفجار في وجه الاحتلال أو في وجه حماس، وبالتالي تصفية الحساب مع حماس، والتخفف من الأعباء المالية التي يفرضها تمويل قطاع غزّة، والحيلولة دون شرعية فلسطينية قد توفرها المصالحة لصفقة القرن، أو الحيلولة دون تمهيد تفتحه المصالحة لإزاحة القيادة الفلسطينية الحالية، لكن، وسواء فكّرت قيادة السلطة بهذه الطريقة أم لا، وسواء رأت في ذلك كله أو بعضه أو غيره مصالح ممكنة من وراء العودة للتصعيد أم لا، فإنّ هذا السلوك مغامرة، ويرتكز إلى روح الخصومة والصراع مع حماس أكثر مما يرتكز إلى التقدير الصحيح، إذ يمكن أن يدفع هذا السلوك قيادة حركة حماس للبحث عن حلول منفصلة وخاصّة بقطاع غزّة، وبترتيب مع القوى التي ترعى محمد دحلان!
يمكن مناقشة أكثر ما جاء في خطاب الرئيس، فأمر غريب جدّا الإصرار على مهاجمة ما يسمى بـ"الربيع العربي"، في حين أن خصوم هذا "الربيع" من الحكام العرب الجدد هم الذين يقال إنّهم يضغطون على الرئيس الفلسطيني للقبول بصفقة القرن!
وغريب كذلك القول إنّ مشاركة حركة حماس في الانتخابات التشريعية قبل أكثر من عشر سنوات هو جزء من مخطط أمريكي افتتح "الربيع العربي" بمشاركة حماس تلك، لكن هذا القول يحيل إلى العقلية الاحتكارية التي اتسمت بها فتح دائما، إذ بحسب هذه العقلية تكون منافستها على التمثيل أو القرار مؤامرة بالضرورة، وهذه الإحالة قادرة على تفسير السلوك الفتحاوي تجاه حماس إلى حدّ بعيد.
وغريب كذلك الاستناد إلى التاريخ لتأكيد اتهام أمني، بدلا من الاستناد للأدلة المادية، وهذه السابقة التي تتجاوز لغة الدعاية المضادّة المألوفة في خطابات الخصومة الفلسطينية الداخلية، إلى الاتهامات الأمنية التي تُبنى عليها السياسات الداخلية، لن تكون في صالح أحد. فتاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، لم يكن خاليا من الاغتيالات والصراع الداخلي والانغماس في الحروب الأهلية في البلاد العربية، بما في ذلك فتح التي انشقت عنها جماعات تحمل اسمها، وتقاتلها وتغتال عددا من قياداتها.
كل ذلك يمكن مناقشته، لكن الأهم من مناقشته، هو ما يدلّ عليه هذا التراجع في العلاقات الوطنية الداخلية، من عجز يردّنا للانشغال ببعضنا بدلا من الانشغال بالعدوّ وبالمخطط الأمريكي. وفي حين كان أداء السلطة متواضعا في مواجهة المخطط الأمريكي، فإنّ حركة حماس لا تملك في المقابل، فيما يظهر حتى اللحظة، أي حلّ لمعضلتها الراهنة، التي كان من أسبابها، ومهما كانت السياقات، العجز عن الجمع بين السلطة والمقاومة. ومع هذا العجز، فمن غير المستبعد، أن هذه القوى، وبسبب خصوماتها الداخلية، تُستدرج نحو صفقة القرن، وخلق شرخ فلسطيني فاحش بين أبناء القضية الواحدة!