(1)
الجهل وطن.. والوعي منفى
هذه واحدة من رصاصات التهكم الفلسفي التي أطلقها إميل سيوران في وجه المنطق المغلق، ضد الشعارات المنمقة التي تخفي خراب العالم المعاصر!
يبدو أنني فكرت طويلاً في موضوع هذا المقال، حتى وصلت إلى "المنفى".. أقصد تلك الدرجة المربكة من الوعي الحاد بالمآسي والملاهي التي تحيط بنا، لهذا قررت في لحظة تمرد أن أنفض عن رأسي كل ما فكرت فيه من قضايا ملتهبة تحرق رؤوسنا وقلوبنا؛ بلا جدوى غير الصراخ والتدافع إلى اللامكان. وفي هذه اللحظة بالتحديد (لحظة التقاء التمرد بالعبث)، ولد في رأسي إيميل سيوران. لم تكن هناك مناسبة تخصه لا صدور كتاب جديد، ولا ذكرى ميتة من ميتاته اليومية المراوغة، ولا هجائية تخص ميلاده الذي وصفه بأنه "أكبر ورطة عاشها".
(2)
سيوران الذي يولد للمرة السابعة بعد المئة في نيسان/ أبريل المقبل، هو رائد "الكليب الفلسفي"، مُنَظِّر الخواء، مقاول هدم المعمار التقليدى للفكر الغربي، مهندس تفكيك السرديات الكبرى.. فهو يكتب تأملاته في عبارات قصيرة منفصلة، كأنها نكات لاذعة، أو أمثال فلسفية، للتندر على عبثية حياة غير منطقية بطبعها.
ذات مرة، عندما كان سيوران في صباه، أراد أن يحتج على الحياة التعيسة التي تخنقه، فألقى بجسده على الأريكة وصاح في وجه أمه باكيا: لم أعد أحتمل هذه الحياة. نظرت الأم ناحيته بازدراء وقالت له: لو كنت أعرف ذلك لأجهضتك، فقد أرهقني حملك دون جدوى.
لم ينس سيوران ذلك الموقف أبداً وكتب عنه في مقدمة كتابه «ورطة أن تولد» قائلا: لقد أصابتنى كلمات أمى بهلع ميتافيزيقى وإهانة وجودية، ألهمتنى بتأليف هذا الكتاب الذي يمكنكم فتحه وقراءته من أى صفحة بدون ترتيب، بل لا يهم أن تقرأوه كله!
(3)
هكذا يصل سيوران إلى ذروة العبث والتفكيك والعدمية، فكل شيء عنده بلا أهمية، لذلك يتعجب عندما يبكي الناس على الموتى، متسائلا باستنكار: الموت مصيرنا المحتوم، فلماذا إذن كل هذا النواح؟ ثم يقفز من هذا الكلام الذي يتضمن قدراً من المنطق إلى سؤال أكثر عبثا: إذا كان الموت مصيرنا، فما قيمة أن نولد أصلاً؟ يا سادة يا عقلاء، من العبث أن نولد ومن العبث أن نموت، لهذا ارتكبت في حياتي كل الموبقات والجرائم، باستثناء أن أكون أباً، لعل أولادي الذين لم يولدوا يمتنون لما قدمته من أجل سعادتهم. إن الميلاد (وليس الموت) هو النكبة الكبرى التي تجلب لنا كل اللعنات الأخرى!
(4)
هذا المقال الغامض يشبه الحياة تماماً: له بداية، وله نهاية، لكن المؤكد أننا جميعا سنختلف على معناه.. والعميقون المتفلسفون منا سيختلفون على ما هو أخطر.. سيختلفون على معناه، وعما إذا كان له معنى أصلاً أم لا؟!
(5)
لا أحب أفكار سيوران، وأظنه كذلك لا يحب أفكاره ولا يحب أي شيء آخر، فالحب عنده خدعة احتيالية، والأفكار مجرد وهم يزين به الناس حياتهم الخاوية من المعنى. إنه يعتبر نفسه منتجاً للشطحات واللعنات، قرر أن ينتقم من الحياة بالوشاية ضدها، والتحامل عليها في اعترافات كيدية، فهو الذي يقول: كل رغبة تبعث في داخلي رغبة مضادة، بحيث (مهما فعلت) لا أجد قيمة إلا للأشياء التي لم أفعلها.
(6)
يكتب سيوران الكثير، ثم يوحي لك أنه يحتقر الكتابة، ينصحك ألا تقرأ من أجل فهم الآخر، بل من أجل فهم الذات.. تعلق بأفكار هتلر ونيتشه وشوبنهاور، ثم قتل الوطن وتخلص من جثته، وعاش يردد وصيته المريرة: لا يسكن المرء بلاداً، بل يسكن لغة، ذلك هو الوطن ولا شيء غيره. ثم خاف أن يصدق أحد كلماته ويعتبرها نوعاً من الحكمة، فيطلق دعابته السوداء: تذكروا جيداً أن نهاية الإنسانية سوف تأتي عندما يصير الجميع مثلي، فلا تبحثوا طويلاً عن الحكمة في كلماتي، إنها مجرد آهات للشكوى والاحتجاج، لا تقرأوني.. اقرأوا أنفسكم.
(7)
لا يسكن المرء بلاداً، هكذا ترجم العرب جملة سيوران، وأظنه (بصرف النظر عن اللغة) كان يقصد: لا يسكن المرء جماداً.. لا يسكن أرضاً شوكية جدباء، لا يسكن حيث الأوبئة والقهر والبلاء، لهذا رحل الناس طوال التاريخ من مكان إلى مكان بحثاً عن أماكن أفضل للحياة، الوطن ليس صنما مقدسا لذاته، فالوطن ليس "ذات".. الوطن مفهوم، دور، احتواء، فرصة افضل لحياة آمنة رغدة لا تتوفر في مكان آخر، ومن هنا نشأت فكرة الدفاع عنه بالنفس والمال والولد، أما إذا صار الوطن مقدسا لذاته، فهذا يعني أن يموت الإنسان لتبقى "الأرض اليباب". وهذا ما صاغه محمود درويش في أبياته المثيرة للجدل: "سنصير شعباً حين لا نتلو صلاة الشكر للوطن المقدّس.. كلما وجد الفقير عشاءه/ سنصير شعباً حين نشتم حاجب السلطان والسلطان، دون محاكمة". وهكذا يا أحبائي، وبكل صراحة، أعلنها واضحة بلا خوف من أناشيد "النفاق الوطني" و"الخضوع المقلوب": الوطن الذي لا يحتويني.. مكان ملعون، فالوطن هو المكان الذي يتسع لناسه باحترام وأمان وكرامة، وغير ذلك يصبح مجرد "سوق نخاسة"، أو "مستعمرة عبيد"، حتى لو رفعوا عليها زوراً وتدليساً كلمة "وطن". فالوطن هو ما توفره الأرض ومنظومة القوانين لسعادة الناس، فإذا فسدت المعادلة لا يبقى إلا الذكريات، وإلا الصالح من الناس وأحلام الإصلاح التي نحملها أينما نذهب؛ حالمين باستعادة الوطن المنشود، من غير خضوع للسيئ الموجود.
(8)
فى مراهقتي كنت مسحورا بموجات الهيبز، وعندما شاهدت فيلم "شَعْرْ" لميلوش فورمان لم أنس أبداً مشهد البداية، حيث نسمع صوت الديكة في غبش الفجر وسط المزارع الفسيحة في الجنوب الأمريكي، ثم نشاهد الأب الريفي يصطحب ابنه إلى المحطة ليسافر إلى نيويورك كمجند في حرب فيتنام، في الطريق يتلو الأب على ابنه الكثير من النصائح والتعليمات: هل أخذت كل ما تحتاجه؟ هل معك مال كاف؟... ثم يضيف "أم النصائح" التي شغلتنى حتى هذا اليوم: لا تقلق.. الأذكياء فقط هم الذين يقلقون، لا تقرأ.. فإن الله يرعى الجاهلين.. لكنني للأسف لم أعمل بالنصيحة، قرأت فشقيت، خسرت نعيم الجهل، وعشت عمرى منفياً في وطن لا يحتويني، ومنفياً في لغتي وفي أحلامي أيضاً، ومع ذلك أفضل المنفى الذي يؤدي إلى حلم، على الوطن الذي يصادر الحرية ويستكثر على الناس الكرامة والأمان ويمسخ الحياة نفسها.
(9)
نسيت أن أخبركم بفشل سيوران في الموت أيضا، ألم نتذكره تواً، ونحكى عنه في الحياة التي طالما لعنها، بينما كان يتخابث ويسجل اسمه على جدران أيامها بخربشاته المشاغبة؟!
أظن أن التمرد والخربشة والمشاغبة تعيش أطول بكثير مما تعيش الاستكانة، ومما يعيش الصمت والخضوع.. فلا تضيعوا عمركم في الخضوع والانزواء، لا تضيعوا حياتكم في الخوف والنفاق.. العنوا أعداءكم، قاوموهم بكل ما تملكون.
tamahi@hotmail.com