لا أتحدث عن الفن التشكيلي.. أتحدث عن صراعات
التونسيين الفكرية والسياسية، وهي ليست جديدة، ولكنها تدور على محورها وتتجدد، فلا يتقدم البلد نحو أفق واضح. أحيانا كثيرة يبدو أن هناك من يتعمد خلط المسائل الجوهرية، كما لو أن في خلطها عملا مربحا له، أو هو في البسيط الأبسط لا يجد ما يفعل بوقته، وليس لديه شاغل غير ممارسة الخلط بين مسائل تبدو لكثيرين جلية واضحة. هذا الخلط المنهجي ينتج صراعات جانبية، ويتوه الناس عن قضايا العيش اليومي التي تتعسر كل يوم. سيظل هناك سؤال عسير على الإجابة، إذا رام المرء ترتيب الأولويات على قاعدة مطالب الثورة: لماذا تختلف النخبة المثقفة في تونس حول أولويات الوطن؟
المواريث نموذج للخلط المنهجي
هذه من القضايا الدورية في تونس، وهي تعود في كل موسم انتخابي تقريبا، وخاصة منذ الثورة. تطرح فئات من النخبة العلمانية (اللائكية المذهب) الموضوع؛ مطالبة بتطبيق المساواة في الميراث على قاعدة "مساواة لا حديث ولا آيات". من هنا يبدأ الخلط المنهجي. فهذا الخطاب المعترض على أحكام الفرائض لا يعلن رفضه الصريح للمرجعية الدينية للنص الديني برمته، ثم يقدم بديلا له نصا وضعيا بمرجعية وضعية، بل يقفز ببراشوت داخل النص الديني، فيجتزئ منه حكما ويرفضه، ويتغافل عن تصور النص الديني للمجتمع وطرق تنظيمه.
فنص المواريث منظم ضمن أحكام الأحوال الشخصية، وهي مجلة مبنية على أحكام شرعية كثيرة، بل هي نص ديني مصاغ بطريقة حديثة. لكن الرافضين للمواريث لا يطلبون إسقاط المجلة، بل جزء منها، فضلا عن أحكام أخرى في نصوص أخرى مسنودة بمرجعية دينية، كحكم الإعدام في المجلة الجزائية.
ولا نجد تفسيرا لهذا الاجتزاء النضالي، إلا أن المطالبين به يرتبكون أمام وضوح الرفض الجذري للنص الديني على قاعدة لائكية واضحة وشجاعة، فينافقونه؛ مجتنبين دفع ثمن المواجهة المباشرة، وعيا منهم بأهمية النص عند الناس، وخاصة عند طرف محدد يقابلهم سياسيا، هو حزب
النهضة ذي المرجعية الإسلامية.
إننا إزاء لائكيين (فيهم يسار ويمين ليبرالي) ينافقون النص الديني ولا يتحملون كلفة لائكيتهم، فيتعمدون هذا الخلط المنهجي في النقاش لإرباك نفس الخصم السياسي، متوهمين وضعه في زاوية الرجعي المعادي لحقوق المرأة، وهي فرس الرهان في هذا الأمر.
توريط الإسلاميين في مرجعيتهم
في ماض قريب، كان الإسلاميون قد اتخذوا موقفا معاديا لمجلة الأحوال الشخصية، خاصة لنص منع التعدد ونص التبني. لكنهم أعلنوا مراجعات (لم يتم اختبارها فعلا)، فتبنوا المجلة برمتها إذ اكتشفوا (فجأة) مرجعتيها الإسلامية، مما أفقد خصومهم محور نضالهم الأول. فقد كانوا يقابلون رفض الإسلاميين للمجلة بالدفاع عنها بكل ما فيها بما في ذلك نص المواريث.
ردا على ذلك، تقدم اللائكيون داخل النص ورفضوا جزءا منه بما وضع خصومهم في موقف يعسر الخروج منه. فإذا قبلوا المراجعة في نص المواريث (الفرائض) قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، فقدوا كل مرجعيتهم، وإذا رفضوه سهل حشرهم مرة أخرى في زاوية الحزب الرجعي المعادي لحقوق المرأة.
المناورة هنا أكبر من قبول نص المناصفة في القوائم الانتخابية التي وضعها ابن عاشور (مشرع ابن علي). فقانون تنظيم
الانتخابات ليس نصا دينيا وقد أمكن الإفلات منه بقبول مبدأ المناصفة بل المزايدة فيه. أما نص الفرائض فورطة حقيقية ولها ثمن انتخابي.
هنا يتجلى سبب الخلط المنهجي وغاياته. فعندما يتقدم الإسلاميون للخوض في الموضوع، على قاعدة مراجعة النص الديني، يقعون في المطب المراد له الوقوع فيه. وها هم الآن في ورطتهم، فلا هم إسلاميون متمسكون بصريح النص، ولا هم لائكيون بصريح الموقف والعبارة. ولهذا الارتباك ثمن انتخابي، وهم يدفعونه في الحاضر، وهذا هو المطلوب ممن طرح الموضوع لقد حقق بغيته. ظاهر النقاش قانوني بحت "حقوقي" وباطنه سياسي بحت، وسيرة المتجادلين تتكرر وترتفع وتيرتها في المواسم الانتخابية.
هل كان يجب اجتناب النقاش في الموضوع؟
كثير من الخائضين في الموضوع من خارج الإسلاميين يعترضون على أن الموضوع ليس أولوية فالقضايا المعلقة أعقد من أن تحل بتعديل قوانين الميراث ولسان حالهم يقول يجب أن يملك الناس أولا ما يروثون لأبنائهم قبل الخصام حول كيفية توزيعه بينهم وهذا اعتراض حقيقي ووجيه. لكن الصراع الانتخابي له قوانينه.
نعم توجد أولويات طرحتها الثورة، فالبلد يعيش أزمة حقيقية؛ لعل أشدها وضوحا الآن هو غياب البرامج الانتخابية المقترحة في الاستحقاق القادم. لقد تباهى الجميع بالتقدم للانتخابات، ولكن أين البرامج التي سينتخب الناس على أساسها؟ يبدو أن هذا سبب جوهري لطرح المسائل الشائكة في غير وقتها.
لقد طرحت نفس النخبة مسائل أخرى أقل أهمية، لكنها محرفة للنقاش عن جوهر مشروع الثورة. لم تكن الثورة تفكر في إجازة استهلاك المخدرات مثلا، لكن هذه من المواضيع التي أخذت حيزا من النقاش، حتى انتهى الأمر بتعديل قانون العقوبات. ونحن الآن نعاني مشكلة تفشي الاستهلاك، ولا استهلاك بلا ترويج، أي أن نضال النخب انتهى بجعل البلد سوقا للمخدرات عوض أن تكون سوقا لمنتجات الذكاء مثلا. ويمكن أن نورد أمثلة أخرى تشتت هذا السياق.
نعم، هذا النقاش ليس أولوية، وتعديل وضع المرأة الدوني في المجتمع سعيا إلى المساواة يبدأ من مكان آخر، ولا بأس أن يصل يوما إلى نقاش المواريث. لقد تم تحقيق مكاسب كثيرة رغم ماضي الدكتاتورية الغاشم، وذلك في مجالات التعليم والتوظيف والقيادة، لكن وضع المرأة التونسية، كفئة هشة، ما زال مضطهدا. فالمرأة التونسية ليست الموظفة المتعلمة فقط، بل هي العاملة الفلاحية، حيث العدد الأكبر من النساء، وحيث تمارس أشكال من الاستعباد المهني البشعة حتى الآن.
التقدم يتم من القاعدة في اتجاه القمة وليس العكس لقد فتح النقاش من الباب الخاطئ. في الوقت الخاطئ ومن قبل الأشخاص الخطأ ولغايات ليس منها تحرير المرأة من ربقة القوانين الجائرة سيتجلى هنا مدخل الخلط المنهجي الذي يربك المشهد عامدا.
الأشخاص الخطأ في الوقت الخطأ
نعم، جر الناس إلى صراع يصرفهم عن هموم معيشتهم الملحة عمل مشبوه، مهما تحلى أصحابه بخطاب إنساني. غفل الناس هذه الأيام عن برامج الأحزاب المتقدمة للاستحقاق الانتخابي، ويغفلون عن اقتصاد يعيش وضعا كارثيا؛ لعل آخر مصائبه انكسار صابة الزيت في السوق المحلية والعالمية. خلط الأولويات يخدم جهات بعينها. يكفي أن ندخل سوق تشغيل المرأة، أو بالأحرى استعبادها، لنعرف من يستفيد من توجيه التركيز على الهامشي.
الأمر يتجاوز إرباك الإسلاميين أو تفريغ وجودهم من كل مشروعية دينية أو مدنية. الإسلاميون أنفسهم يطيب لهم النقاش المغلوط؛ لأنه يعفيهم من عرض أنفسهم على الناس كحملة مشروع تنموي، وليس كحراس عقيدة معرضة للاختراق اللائكي. لذلك، لا نرى لهم حرصا حقيقيا على جر النقاش إلى منطقة أخرى تنتظرهم فيها الناس بلهفة.. قناعة سينتهي إليها الجميع بعد فوات الأوان، ولات ساعة مندم، أن طبقة الفساد تمول النقاش المغلوط والمنحرف، وهذا جوهر اللعبة. ما دامت الصراعات الفكرية في هذه المنطقة، فلن يوجد الجهد والوقت لطرح أمهات القضايا، وعلى رأسها الفساد.
يقتضي الصدق مع الوطن، ولمن يبيع صوته وضميره أن يعيد تركيز النقاش على بناء الدولة المنهارة وعلى إصلاح مجتمع نخره الفساد. وأول خطوات الصدق النخبوي، إعلان المرجعية للناس. على اللائكي أن يصرح بمرجعيته اللائكية ويقترح من خلالها، فيتحمل مسؤوليته أمام الناس، مثلما على الإسلامي أن يعلن موقفا صريحا من النص المقدس وبلا مواربة، خلف فصل الدعوي عن السياسي دون مضامين تنموية. ثمة فئة ثالثة تختفي خلف اللاموقف، وتنتظر نتيجة الصراع دون مرجعية، فلا هي لائكية ولا هي إسلامية. وهؤلاء لا يعتد بهم.. لقد سميتهم ضباع الديمقراطية، ونحن نراهم جالسين بين كرسيين ككل عاجز عن موقف ذي كلفة.
متى ستخرج تونس من هذا النقاش المزيف؟ ليس لدي إجابة، ففعل التونسيين ببلدهم يعسر حتى على علم الاجتماع.