وخرج عاكف
خرجت من السجن وذهبت لبلدي، وكانت أمي موجودة. ولم يمر أسبوع أو عشرة أيام حتى أرسلت لي وزارة المعارف لأتسلم عملي كمدرس، وذهبت وتقابلت مع الأستاذ نوفل، مدير عام شؤون العاملين، فتحدثنا، ورفضت أن أتسلم عملي مدرسا بعد هذا العمر. وقلت له: أنا اسمي محمد مهدي عاكف، وأبلغ السيد الوزير أنني لن أتسلم عملي إن لم أكن على قمة زملائي أدبيا وماديا، فأنا لست في حاجة للعمل لو ظلمت، بالرغم من أنني كنت وقتها في أشد الحاجة لأي شيء، ولكن ما قبلت إطلاقا أن أعود كمدرس. فأرسل لي بعدها يقول لي: لقد وضعوك في الدرجة الأولى في الأقصر، فقلت له: إنني تم القبض علي من القاهرة، وحقي أن أعود موجها أول في القاهرة.
وبالفعل، صدر القرار بتعييني موجها أول في القاهرة، وتسلمت عملي مستشارا لوكيل وزارة التعليم في مجمع التحرير بالقاهرة، ليبعدوني عن الاحتكاك بالطلاب. وجلست في مكتب فخم مكيف لمدة شهر كامل، لكن لاحظت أنه لم يدخل عليّ أحد، ولم يستشرني أحد، ولم أوقع على ورقة، وكان وكيل الوزارة زميلا لي يدعى "أبو شادي"، فقلت له: أنت تعلم أن محمد عاكف لن يكون أبدا وزيرا بلا وزارة، فإما أن يكون هناك عمل وإما أن أذهب لأعمل موجها في أي منطقة من القاهرة، فأصدر قرارا بتعيني للعمل كموجه في مصر الجديدة، حيث بقيت فيها أسبوعا.
مع الكفراوي في التعمير
جاء الكفراوي والحاج حلمي عبد المحسن، وأخي حسن عاكف رحمه الله، ليقولوا: نريدك معنا في التعمير، وسنقوم بعمل إدارة عامة للشباب، وعارضتهم في البداية. وكنت وقتها أقيم في مصر الجديدة عند أختي، وأتقاضى 68 جنيها من عملي كموجه أول، فقالوا لي: سيكون الراتب مضاعفا، وهناك منزل وسيارة. فقلت: إذن أذهب وأتزوج، وهكذا تسلمت عملي مديرا عاما في وزارة التعمير أواخر عام 1974، ثم تزوجت.
زواج وحج
وبالنسبة لموضوع الزواج، فقد كنت وأنا في السجن أمازح الأستاذ عمر التلمساني وأقول له: من ستوافق على الزواج مني؟ فقال لي: اسكت يا ولد.. أنت عروستك ما زالت في بطن أمها! وعندما خرجت من السجن، قلت له إنك وعدتني بأن تزوجني، فقال لي: سأذهب لأخطب لك ابنة أخي. وأعطاني موعدا يوم الأربعاء، ولكن في يوم الأحد السابق لذلك الموعد حضر إليّ اللواء كمال عبد الرازق، وكنت ذاهبا لحضور مباراة في نادي الجزيرة، فوجدته يقف ويقول لي: إني أريد أن أذهب للحج، فقلت له وما يمنعك؟ إنك مدير أمن عثمان بك، وأنا خارج لتوي من السجن، وليس معي أي شيء! فقال لي: لقد رأيت رؤيا أن أحضر لك لكي نذهب سوية للحج.
كانت ابنة خالي، الحاجة روح شرف صاحبة شركة سياحية شهيرة جدا وقتها، اسمها "جولدن تورز"، وكانت تعلم أنني خرجت بعد عشرين عاما من السجن، وأحبت أن تأخذني معها في الفوج الخارج للحج، فرفضت، وقلت لها: لا أحب أن أحج عالة على أحد. ولم أذهب، ولكن عندما حضر لي كمال عبد الرازق يريد أن يحج، وأصر أن يأخذني معه، أخذته وذهبت إليها، وقلت لها: اللواء كمال عبد الرازق يريد أن يحج، وأرجو أن يكون له مكان عندك. فقالت لي: إن يذهب محمد عاكف معه إلى الحجاز فستكون هناك تذكرتان، أما إذا لم يسافر محمد عاكف، فليس هناك تذاكر، فقلت لها: إنك تعلمين أنني خارج قريبا من السجن، وليس معي شيء! فقالت: إنني لا أريد منك شيئا، وطلبت فقط أشياء تافهة جدا أهمها جواب من الوزارة، ومع ذلك أصررت على المشاركة في النفقات، وكان ثمن التذكرة يومها 105 جنيهات، وكان في جيبي 95 جنيها فدفعتها لها، على أن أحضر لها الباقي.
كان لقائي بكمال عبد الرازق يوم الأحد، وأخذته لشركة السياحة يوم الاثنين. وفي يوم الأربعاء كنت أركب الطائرة أنا وكمال عبد الرازق، ونزلنا فوجدنا السيارات الفخمة منتظرة هناك. والمعروف عن شركة جولدن تورز أنها فخمة جدا (سبعة نجوم وليس خمسة نجوم)، لدرجة أن الكفراوي كان يحج ورآني هناك، فقال لي: هل دعاك الملك فيصل؟ وكانت حجة طيبة، وهي أول مرة أحج في حياتي وأول مرة أركب الطائرة.
اتصلت هاتفيا بمجرد عودتي من الحج بالأستاذ عمر، وقلت له: أخبرتك أني خارج إلى الحج، وأول مكالمة بعد الحج سأسألك أين العروسة؟ وكنت أطوف حول الكعبة، وأقول: "رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير"، فقال لي: لقد ذهبت لأخطبها لك، فوجدت وجهك حلوا عليها، فخُطبت لغيرك. وكان يجلس بجانبي المهندس إمام غيث، فقال لي: أخطب شقيقة الدكتور محمود عزت، فقلت له إنني أعلم أن آخر أخت له قد خطبها الدكتور عامر، فقال لي، لا بل لديه أخت صغيرة. فذهبت لخطبتها، وكانت فعلا كما قال الأستاذ عمر، فقد دخلت السجن وهي ما تزال في بطن أمها! وحقق الله لي الأمنيات الثلاث الخروج من السجن، والحج والزواج.
والحمد لله أن أكرمني بهذه الزوجة الكريمة التي عاشت معي وتحملت ظروفي، وعانت معي طوال حياتنا، وصبرت على كثرة مشاغلي وغيابي، فكانت نعم الزوجة التي وهبها الله لي.
خطوة نحو التنظيم الدولي
في آذار/ مارس 1975، كنت قد تزوجت وقضيت وقتا طيبا في الإسماعيلية، ثم خرجت رئيسا لبعثة الحج في عام 1976 وبعدها حدث خلاف شديد بيني وبين رئيس جهاز التعمير في ذلك الوقت، وكان مهندسا عظيما، هو المهندس إبراهيم زكي قناوي. وأراد أن ينقلني إلى القاهرة وليس لي فيها بيت أو أي شيء، وستذهب عني كل المميزات؛ من المنزل والسيارة والراتب المضاعف، فذهبت لأبحث عن حجرة في القاهرة (حيث إنني متزوج)، فلم أجد، ففكرت جديا في السفر والبحث عن عمل آخر.
كانت من يوم أن خرجت من السجن تنهال على العقود من قطر والكويت والسعودية، وأنا أرفض ترك مصر. وخلال بعثة الحج الذي ذكرتها، قابلني الأخ كمال الهلباوي والدكتور عبد الحميد أبو سليمان (أمين عام الندوة العالمية للشباب الإسلامي)، وطلبا مني مشاركتهما في العمل، ولكني لم أتخذ قرارا حاسما وقتها.
كانت أمي على فراش الموت، وكنت عندها عندما جاءني اتصال هاتفي من الرياض؛ يجددون لي طلبهم بمشاركتهم العمل في الندوة العالمية للشباب، فسألتها: يا أمي يطلبونني للسفر إلى الرياض، أأذهب؟ فقالت لي: اذهب. وظلت تدعو لي. وسرعان ما أرسلوا إلي التذكرة، وذهبت. ووجدت هناك العمل الشبابي العالمي على أرقى وأوسع مستوى، وكانت بداية تنفيذ خطتي التي وضعتها في السجن لنشر الدعوة في أنحاء العالم.
وضعت نصب عيني الارتقاء بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، فوضعت الخطط التي ترتقي بالشباب، وتعاونت مع العاملين في الندوة على ذلك، وانطلقنا في عمل المعسكرات.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (24)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (23)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (23)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (22)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (21)