نكسة وطن وانفراجة مسجون
كنا نتابع خطب عبد الناصر الرنانة، وأنه سيلقي بإسرائيل في البحر، وأن مصر تملك السلاح القوي.. واندلعت الحرب، وكنا نسمع صوت المذيع أحمد سعيد الذي كان يطالعنا بين الحين والآخر بأن قواتنا أسقطت عشرات الطائرات وأسرت مئات الإسرائيليين. لكن استيقظنا على الطامة الكبرى، وهي هزيمة ودمار جيشنا المصري في صحراء ملتهبة تحت أقدام الصهاينة.
بعد النكسة، رفعوا عني الحبس الانفرادي، وفوجئنا بأن سياسة مأمور السجن قد تغيرت، وخفت القيود نوعا ما، وأصبحنا نمارس أنشطة عديدة في الذكر وحفظ القرآن والرياضة، وكانت تأتي فرق من الخارج (من المدارس والاتحادات) لتلاعبنا في كرة القدم أو اليد أو السلة، وكنا نأخذ المركز الأول فيها، وكنا نعقد لقاءات مكثفة في الثقافة العامة.
فُرجت
كل هذا بالإضافة إلى خدماتنا للمسجونين. وأذكر أننا كنا في كل يوم جمعة نقوم بعمل طعمية لكل المسجونين، وكانوا حوالي ألف مسجون. وكنت أنا الذي أشرف على هذه العملية، وكنا نقوم بطهي أرز رائحته كانت تجذب الناس من الخارج، من الضباط وغيرهم، ليأخذوا منه. كذلك كنا في الأعياد نقوم بعمل حفلات كبيرة جدا، ويقوم الإخوان بعمل الكعك لهم، وفي عيد الأضحى خصوصا نقوم بعمل الرقاق باللحم المفروم، حيث إن مكونات الرقاق موجودة في السجن، وإذا اشترينا نشتري أشياء يسيرة جدا. وكان الإخوان محبوبين جدا، ولهم مكانتهم في السجن، وصار لهم تأثير في جوانب متعددة.
والمواقف التي أثر فيها الإخوان تأثيرا كبيرا في السجن كثيرة جدا، وسأضرب مثلا على ذلك بشاب كان يقوم بخدمتنا، يدعى علي الجربان، وكان علي الجربان هذا خارج السجن من المجرمين الذين يخافهم الناس، وكان خطيرا لدرجة أنه كان إذا سار في محافظة قنا وعلم الحكمدار بسيره؛ يرجع خوفا منه.. فحضر للسجن، وأحب الإخوان من معاملتهم، وبدأ يصلي، ثم أصبح يصر على أن يقوم بخدمتنا. وكان الضباط الذين يأتون من الخارج لرؤية علي الجربان لا يصدقون أنه هو الذي كانوا يعرفونه.
علي الجربان مجرد نموذج، فكثيرون غيره من المسجونين تعلموا الصلاة الصحيحة وأصبحوا في غاية الأدب، وكنا نقابلهم بعد خروجنا فنجدهم على العهد أناسا طيبين. فليس كل من في السجن أشرار، بل هناك كثير من الأشخاص الطيبين، فطرتهم نقية، ويحتاجون لمن يأخذ بيدهم.
وأذكر أن أحد العمد الكبار من المسجونين أخطأ خطأ ما، فنادى عليه وكيل السجن، وكان مسيحيا - وهو يريد أن يعاقبه - فوقفت بينهما ومنعت الوكيل وصرفت المسجون. وبعدها قابلني الوكيل وشكرني، وقال: لقد كنت على وشك أن أعتدي عليه، ولو فعلت لقتلني أهله بالخارج، فقمت أنت بمنعنا، فشكرا لك على ذلك.
ولعلك تستغرب إن قلت إن تأثير الإخوان في السجن والجو الإيماني الذي أشاعوه داخل السجن بلغ درجة التأثير في ذلك المأمور الذي كان يضرب به المثل في القذارة، فقد فوجئت بذلك المأمور يبعث إليّ (وما تعودت قبل ذلك على الجلوس في حجرته، فكان يتكلم وأنا واقف).. فقال لي: تفضل اجلس، فتعجبت وجلست. فقال لي: هل يقبل الله التوبة؟ فقلت له: إلا أن تشرك به (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، فقال لي: لقد فعلت كذا وكذا، فقلت له: لا تقل لي ماذا فعلت فلا أريد سماعه، فما دمت تؤمن بالله وحده ولا تشرك به فالله يغفر الذنوب جميعا.. وتركته، فلم يصدق، وأرسل إلى صلاح شادي، وعلمت أنه رد عليه بمثل ردي بالضبط، وبعد ذلك تغيرت معاملته، وصلى وصام وقرأ القرآن، وبنى مسجدا في السجن. ولمست زوجته هذا التغيير الكبير في حياته، فكانت كلما تطهو ديكا روميا أو محشيا أو أي طعام آخر؛ ترسل لي بنصفه.
وبعد فترة أصبح ذلك المأمور مديرا للأمن في بورسعيد، وكان يرسل لي داخل السجن ويقول: أنا على العهد، وهذا ببركة الإخوان. وعشنا في سجن قنا حياة مستقرة حتى انتقلنا إلى سجن طرة بعد ذلك.
مات أبي
ومن الأحداث المهمة التي مرت بي في سجن قنا خبر وفاة والدي - عليه رحمة الله - حيث توفي في شهر كانون الثاني/ يناير عام 1972، وصلى عليه الإخوان في جميع السجون، وأتى لي أشخاص بأعداد كبيرة من خارج قنا لتعزيتي. وقد كان رحمه الله رجلا صالحا، والإخوان يحبونه كثيرا.
مات عبد الناصر وخرج الإخوان
في آذار/ مارس 1972 رحلنا لمزرعة طرة، وبدأنا بتنظيم النشاط. وأحبت قيادات الإخوان الموجودة هناك أن تترك لنا القيادة، ولكنا رفضنا ذلك، وقلنا لهم: كما أنتم.
وكان سني في ذلك الوقت حوالي 45 أو 46 عاما، وكان في السجن بقية من إخوان 1965م، وعشنا معهم حياة طيبة، وكان معظمهم شبابا عمرهم حوالي 20 عاما، فكنا نلعب تنس، وكرة قدم، واليد، وكنت رغم كبر سني أفوز عليهم. وكانت الرياضة تشغل جزءا كبيرا من وقتي، فكنت أجري حوالي 5 كم تقريبا في الصباح، وبعد الجري أستحمّ وأتناول إفطاري ثم أراجع القرآن، وكان الأخ عبد المنعم سليم هو الذي يسمّع لي القرآن، ثم أرتاح قليلا، وبعد العصر نخرج للعب. وكنا هناك في عنابر، وكنت أنا مسؤولا عن الطهي في عنبرنا، ومعي الأخ إمام غيث رحمه الله، وكان طباخا فوق الممتاز، فكنا نضع الطعام، ونذهب للعب، ثم نذهب لتناول العشاء، ويقومون بغسل الأواني، وبعد العشاء أستريح قليلا ثم أنام.
وكان الشباب يجتمعون حولي، فكنت أمزح وأقول إني سألت الله عز وجل أن يفرج عني، وأن يحججني وأن يزوجني.
وجاء الفرج والفرح
وفي يوم 25 تموز/ يوليو 1974، جاء وفد من المخابرات والبوليس السياسي أو أمن الدولة، وكانوا حوالي خمسة أفراد، ودخلوا على مدير الليمان، وكان اسمه اللواء علي موسى، ثم طلبوني أنا وعلي نويتو، وقالوا لي: يا عاكف لن نفرج عنك إلا إذا كتبت لأنور السادات، فقمت دون أن أشعر وقلت لهم: اسمعوا: أبلغوا أنور السادات أن محمد عاكف يقول لك: إن الله سبحانه وتعالى خلقه حرا ولن يساوم على حريته، وإن الله خلق له عقلا والعقل أمانة، والحاكم الشريف لا يساوم مواطنيه على حريتهم ولا على آرائهم، وانصرفت.
وفوجئت في اليوم التالي بعلي موسى يحضر مسرعا ويقول لي: يا عاكف، مبروك إفراج، وكنا خمسة باقين في السجن من الإخوان، أنا وصلاح شادي، ومحمد سليم، وعلي نويتو، ومحمد العدوي.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (23)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (22)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (22)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (21)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (20)