أبدت دولة الاحتلال حماساً ملحوظاً للزيارة التاريخية التي قام بها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى الهند، واستمرت ستة أيام. رافق نتنياهو في هذه الزيارة وفد كبير من رجال الأعمال من أكثر من 100 شركة صهيونية، لتوطيد العلاقات الثنائية. وعبر نتنياهو عن بهجته بالزيارة في سلسلة تغريدات؛ قال فيها إن هذه الزيارة تدفئ قلب كل إسرائيلي، وإنه تأثر بالحفاوة المدهشة التي تم استقبالهم بها من المواطنين الهنود الذين وقفوا في الشوارع وهتفوا لدولة إسرائيل!
نتنياهو خاطب خلال الزيارة كبار رجال الأعمال الهنود؛ قائلاً: "تعالوا إلى إسرائيل واستثمروا فيها، وإسرائيل ستأتي إلى الهند". كذلك لم يفوت نتنياهو الفرصة دون الالتقاء بعدد من نجوم السينما الهندية، بهدف النفاذ إلى وجدان الأمة الهندية.
توثيق دولة الاحتلال لعلاقاتها مع دولة بهذا الثقل العالمي سيشعرها بمزيد من الاندماج العالمي، وسيقويها سياسياً واقتصادياً
يحق لدولة الاحتلال أن تزهو
بتقوية علاقاتها مع الهند، فالهند هي ثاني دولة في العالم من حيث عدد السكان، فيبلغ عدد سكانها أكثر من مليار و300 مليون نسمة. أما اقتصادياً، فتعد الهند واحدةً من أكبر اقتصادات العالم، وتتجه إلى مزيد من النمو في مجالات الخدمات التكنولوجية والزراعة والتعدين وصناعة الأفلام وغيرها، وتوثيق دولة الاحتلال لعلاقاتها مع دولة بهذا الثقل العالمي سيشعرها بمزيد من الاندماج العالمي، وسيقويها سياسياً واقتصادياً، ويساهم في تكريس الشرعية التي تبحث عنها.
في مقابل هذا الزهو الصهيوني، ينبغي للعرب أن يحزنهم هذا التقارب، خاصةً أن الهند كانت تاريخياً صديقاً للعرب. فقد خاض الشعب الهندي معركةً تحرريةً ضد الاستعمار البريطاني في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي ذات المعركة التي خاضتها الشعوب العربية، مما أوجد مشاعر مشتركةً بين الأمتين وقرب المسافة الروحية بينهما. وقد عبر التقارب العربي الهندي عن نفسه سياسياً في خمسينيات القرن الماضي، في التقارب بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والزعيم الهندي جواهر لال نهرو؛ اللذين أسسا مع زعماء آخرين في عام 1961؛ حركة دول
عدم الانحياز، والتي قامت على مبادئ احترام أهداف ومبادئ الأمم المتحدة، وتأييد حق تقرير المصير، والاستقلال الوطني، ومعارضة الفصل العنصري، وابتعاد دول حركة عدم الانحياز عن التكتلات والصراعات بين الدول الكبرى، والكفاح ضد الاستعمار بكافة أشكاله وصوره، والكفاح ضد الاحتلال والعنصرية والسيطرة الأجنبية.
هذه المبادئ التي قام عليها التقارب العربي الهندي قبل نصف قرن؛ تتناقض مع طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين، القائم على الاحتلال والتمييز العنصري، ومصادرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والاستقلال. وإسرائيل قبل ذلك تمثل امتداداً للحقبة الاستعمارية الغربية، وهي الحقبة التي اكتوت الهند بنيرانها، وكافحت زمناً طويلاً في سبيل الخلاص منها.
تحمل الهند إرثاً روحياً غنياً يمكن أن يساهم في تعديل اختلال السياسات العالمية. فالهند هي موطن المهاتما
غاندي الذي ابتدع أسلوب اللا عنف في مواجهة الاحتلال البريطاني. وهو أسلوب يعتمد فلسفة "قوة الحقيقة"، إذ يقوم الرهان فيه على تحرير ضمير الخصم بدل سحقه، وقد نجحت الفلسفة الغاندية فعلاً في تحقيق استقلال الهند. وسار على خطى غاندي؛ رفيق دربه جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، والذي كان له دور مركزي في تأسيس حركة عدم الانحياز، وصياغة مبادئها المنحازة إلى نضال الشعوب ضد الإمبريالية والاستعمار.
إن الهند بما تحمله من تراث روحي عميق، وبمواقفها المبدئية في تأسيس حركة عدم الانحياز، كانت مهيأةً لتقديم مثال "السياسة الأخلاقية" في مواجهة "السياسة الميكيافيلية" الحاكمة لسلوك الدول الكبرى وعلاقاتها بالشعوب الضعيفة. وقد تناول المفكر الجزائري مالك بن نبي أثر غاندي العظيم في السياسة الدولية في كتابه "الفكرة الأفريقية الآسيوية"، فقال: "إن النصر السياسي الذي أحرزه غاندي يسجل لحظةً هامةً في تاريخ الهند، ولكن انتصاره الأخلاقي يعد أكثر أهميةً. فهو يسجل اللحظة المؤثرة التي أصبح فيها مبدأ اللا عنف قوةً سياسيةً عالميةً، وبفضل هذه القوة، دخل المستعمَر إلى المسرح الدولي، فإن ملايين الناس يدينون بتحررهم السياسي إلى وساطة الهند".
ويواصل بن نبي: "لقد بدأ حوار جديد في التاريخ، حوار لم يكن المتحدث إلى القوة فيه قوة أخرى من نوعها تجر العالم إلى الحرب طبقاً لسياسة حافة الهاوية، بل هو نوع جديد، ليس المتكلم فيه مسلحاً بقنابل ذرية، بل بقوانين جديدة أخلاقية برهن غاندي على صلاحيتها وتأثيرها".
مسار التاريخ لم يمض في الخط التفاؤلي، ولم تصعد حركة عدم الانحياز، وصعدت عوضاً عن ذلك الهيمنة الأمريكية
هكذا كتب مالك بن نبي قبل أكثر من نصف قرن؛ متفائلاً بخارطة سياسية جديدة طور التشكل، تعيد توزيع مراكز القوة في العالم، وتزحزحها من القطبين المهيمنين إلى مركز جديد في الوسط متمثلاً في الاتحاد الأفرو آسيوي.. هذا العالم الذي كانت الشعوب المستضعفة تستبشر به عقب عقد مؤتمر باندونج عام 1955، وعقب تأسيس حركة عدم الانحياز، كان يمكن لو أنه استوى على سوقه أن يعدل اختلال الميزان، وأن ينشر أثراً من روح غاندي على مسرح السياسة الدولية، فيضفي إليها بعداً أخلاقياً يخفف من لغة الهيمنة والصراع، ويعلي من لغة التعاون والأخوة الإنسانية.
لكن مسار التاريخ لم يمض في الخط التفاؤلي، ولم تصعد حركة عدم الانحياز، وصعدت عوضاً عن ذلك الهيمنة الأمريكية. ولم تواصل الهند طريق السياسة الأخلاقية الذي انتهجه غاندي ونهرو، بل سارت على نهج مستعمريها في اتباع السياسة الميكيافيلية، وهو ما تجلى في فصله الأخير بتعزيز العلاقات الهندية الإسرائيلية، مع ما يمثله هذا التقارب من خيانة لحوالي مائة عام من نضال الشعب الهندي ضد الاستعمار البريطاني وتنكر لمبادئ حرية الشعوب وحق تقرير المصير التي تبناها الزعيم الهندي جواهر لال نهرو.
ثمة أسباب هندية داخلية تحتاج إلى خبير لتناولها، لكننا لا نستطيع لوم الهند وحدها، فالأفكار لا تنمو إلا في بيئة تدافعية
لماذا لم تواصل الهند اقتفاء خطى غاندي ونهرو؟
بالتأكيد ثمة أسباب هندية داخلية تحتاج إلى خبير لتناولها، لكننا لا نستطيع لوم الهند وحدها، فالأفكار لا تنمو إلا في بيئة تدافعية، وحركة عدم الانحياز لم تسند بقوى دفع، لذلك لم تكبر وتتقدم، ولم تكن كثير من دول الشعوب المستعمَرة تملك مشاريع جادةً ورؤىً مدروسةً للتنمية والتعاون المشترك، لذلك لم تجد الهند في الدول العربية حلفاء يمكن مواصلة التحالف معهم. والعالم العربي في ضوء الشروط السياسية والاجتماعية الراهنة لا يمكن أن يكون صاحب مشروع جاد يقود إلى القوة السياسية والاقتصادية، ويدفع الأمم الأخرى إلى احترامهم والحرص على إرضائهم.
إن التاريخ لا يعرف الفراغ. وإذا كنا قد أخلينا الساحة، فلماذا نغضب حين تتقدم إسرائيل لملئها؟
وإذا كنا لا نملك في خطابنا الخارجي سوى إقامة الحجة على الهند من كِتابها ودعوتها إلى التصالح مع ميراث زعمائها وتاريخها النضالي، فإنه بالمنطق السياسي علينا ألا نتوقع من أمم الأرض احتراماً وانحيازاً إلى قضايانا؛ ونحن لا نملك من أوراق القوة ما يشعرهم بالحاجة إلينا، ولا نملك من حسن إدارة المعركة ما يبين حقوقنا ويسوء وجه عدونا في العالم، بل إن أكثر الدول العربية قد اختارت من تلقاء نفسها أسلوب التبعية للأجنبي، وتخلت عن طموح الاستقلال والقوة.
إن التاريخ لا يعرف الفراغ. وإذا كنا قد أخلينا الساحة، فلماذا نغضب حين تتقدم إسرائيل لملئها؟