مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (14)

محمد مهدي عاكف - جيتي

مشروع الفصائل

بعد فصل السندي ورفاقه، كان موضوع النظام الخاص قد انتهى. وبعد خروجنا من المعتقل في كانون الثاني/ يناير 1954، وبناء على رغبة الإخوان في أن يظل التدريب للإخوان وإعدادهم للجهاد موضع اهتمام، كلفني الأستاذ الهضيبي بوضع مشروع لتحقيق هذه الغاية. فوضعت مشروع الفصائل، وقدمته إليه، فكلفني في 25 أيار/ مايو 1954 بتنفيذ ذلك المشروع، وعينني مسؤولا عن التدريب، وإعداد الإخوان على مستوى القطر. وكانت متابعتي مباشرة من الشهيد يوسف طلعت والأستاذ حسن الهضيبي، في حين كان يعاونني في تدريب الفصائل جهاز كبير. كان المسؤولون عن المكاتب الإدارية على علم بالخطة وبالعمل، وكان معي - لا يفارقني - عبد المنعم عبد الرؤوف، وكان رجلا عظيما سهلا، وجنديا تتجسد فيه كل معاني الجندية، وكان يعاونني في كثير من الأمور.

وبالفعل، بدأنا في تنفيذ مشروع الفصائل، حيث يقضي النظام أن تكون في كل شعبة فصيلة تضم 37 إلى 40 فردا على الأكثر.. تعرف سلاحها، وتتدرب عليه، بحيث تكون جاهزة إذا قيل لها "حي على الجهاد".

استوحيت هذه الفكرة من تاريخ الجيوش العربية الإسلامية، حيث لم يكن هناك جيش، بل يكفي أن يقال "حي على الجهاد" فيخرج الجميع للجهاد بسلاحه. كما وجدت في سويسرا الأمر كذلك، فلا يوجد هناك جيش سويسري. وكذلك في الكيان الصهيوني كل واحد يتدرب، ويعلم فصيلته وكتيبته، ونوع السلاح الذي يستعمله، ثم يتدرب كل عام لحوالي أسبوعين أو شهر.. وهكذا.

لم يكن نظام الفصائل سريا في ذلك الوقت، بل كان اختيار الإخوان في الفصائل مفتوحا ومتاحا للاشتراك بلا قيود، ولذلك عند محاكمتي قالوا لي: الفصائل جهاز سري. فقلت لمن يحاكمني: أنت ضابط جيش وعسكري، فهل تعرف أن النظام السري يتكون من فصائل والفصيلة تتكون من حوالي 37 شخصا، يعرفون بعضهم بعضا، فهل تسمي هذا نظاما سريا؟! فالنظام السري عبارة عن مجموعات قليلة عنقودية، لا يعرف بعضها بعضا، كما كنا من قبل في النظام الخاص، حيث كنا نتخاطب بالأرقام وليس بالأسماء. أما نظام الفصائل، فكان علني النشأة والهدف؛ بأن يكون كل الشعب جاهزا ومستعدا للجهاد، ومساعدة الشعوب العربية في تحرير أراضيها. ولم يتحول نظام الفصائل للسرية؛ إلا بعد أن بدأت الحكومة في البطش بالإخوان بطشا شديدا، بداية آب/ أغسطس من العام ذاته.

كان التدريب في البداية يستوعب مجموعات الإخوان، ويحقق لنا ما نريد، وكنا في الوقت ذاته نعقد معسكرات خاصة نقوم فيها بتدريب الفصائل على ما لم يسع وقت التدريب استكماله. وفي غضون شهرين (من أيار/ مايو حتى قبض عليّ)، قمنا بحمد الله بعمل كبير، حتى أصبح في كل منطقة فصيلة، مع أن إعداد الفصيلة كان يحتاج لمجهود شاق، وتدريبات وثقافة عامة، ومعرفة كل فصيلة بل كل فرد لمهمته.

كنا نريد تجهيز الفصائل تماما في أسرع وقت؛ فقد كانت قلوبنا وعقولنا تتابع معارك الجزائر، وكان محيي الدين القليبي من زعماء الجزائر المحكوم عليهم بالإعدام، فقمنا بتهريبه لمصر، وكان يعيش معي، ويحضر إلينا شبابا رائعا كنا نقوم بتدريبهم.

بدأ الإخوان الإعداد الفعلي لخوض معركة الجزائر. وعندما ذكر الأستاذ الهضيبي لحسين الشافعي ذلك الأمر، سخر منه حسين الشافعي، بل صرح للجرائد بأن حسن الهضيبي يريد أن يحارب في الجزائر، ولا يريد أن يحارب في القناة.. وكان ذلك كذب وتضليل باتهام الإخوان بأنهم لا يريدون أن يحاربوا في القنال، على الرغم من أن دماءهم ما تزال تنزف على أرض القنال بعد حرب 1951م.. فإن لم نكن نحن الذين حاربنا الإنجليز في القناة فمن حاربهم؟! هناك أشخاص يعشقون التضليل والكذب، ونحن لا نملك إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

وعلى صعيد التنفيذ، وفي الوقت الذي شارفنا فيه على التحرك لمساعدة إخواننا في الجزائر، بدأت الحكومة تبطش بالإخوان، وكان موقفا في غاية السوء، وكأن هؤلاء الحكام أرادوا عمدا منعنا من أداء واجبنا نحو مصر والعالم الإسلامي. ومع أن الإخوان في ذلك الوقت كانوا مدربين ضد أي محتل، لكنهم كانوا يهدفون للسلام مع حكومات بلدانهم؛ لأنهم ما قاموا في يوم من الأيام بعمل ضد الحكومة.. حتى في أحلك الظروف عندما اشتدت حملة علينا الحكومة، ورأى بعض الشباب أن عبد الناصر يسعى لأن يقضى على الإخوان، فيجب أن نعجل بالقضاء عليه وإزاحته من السلطة، كان موقفا رائعا من المستشار حسن الهضيبي حينما هب غاضبا وقال: "لا أتحمل دم أحد".

لكن ما كنا نضع في أذهاننا أننا نتدرب من أجل أن نقضي على أحد في بلادنا، لكن هذا العمل كان فقط لاستكمال تدريب الإخوان، ولتلبية داعي الجهاد في العالم، وليس في مصر ضد الإنجليز فقط.

ولهذا أتحدى أن يقول قائل: إن الإخوان استخدموا السلاح الذي بأيديهم ضد أي مصري، أو يخرج دليلا فعليا على ذلك، وليس مجرد تصريحات.

لقد كنت أدخل على رئيس الوزارة والسلاح في جيبي، وكنت أقابل حتى عبد الناصر والسلاح في جيبي، وكان لدينا في أيام الجامعة أسلحة، فلم يحدث أن استخدم أحد من الإخوان ذلك السلاح ضد الشعب أو ضد الحكومة، بل كان هذا السلاح وذلك التدريب لإعداد هذه الأمة لمواجهة المحتلين الذين احتلوا أرضنا زهاء سبعين سنة في مصر، وما يقرب من مائة سنة في الجزائر.. فهذا هو الشعور الذي تربى عليه الإخوان؛ بأننا مسؤولون عن كل بلد يقال فيه لا إله إلا الله، محمد رسول الله. بيد أن هذا المعنى كان غائبا عن حكوماتنا الماضية والحالية. وعندما تم القبض على يوسف طلعت، ووجدوا معه السلاح قال لهم: إنني لم أضرب به أعدائي، أفأضرب به إخواني من الجيش المصري والعساكر المصرية؟ لماذا؟ وإذا كان بيني وبين عبد الناصر شيء فلا شيء بيني وبين هؤلاء العساكر حتى أضربهم!

إن أمر الدماء عندنا له حرمة كبيرة، ونحن نربي شبابنا على أساس احترام الإنسان أيا كان، ولا نظلم أحدا أو نجور عليه لمجرد أنه مخالف لنا. وكما ذكرت، فإن مسيحيا كان يقود لي السيارة أثناء المعسكرات قبل الثورة، وكان يقول لي: أنا على العهد، وهذا ببركة الإخوان.

هذا، وقد قمت على هذه الفصائل حتى علمت أن عبد المنعم عبد الرؤوف هرب من السجن، وكُلفت بمعاونته على الهروب.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (13)

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (12)