لا ينكر اللبنانيون فضل المملكة العربية السعودية عليهم في مساعدتهم على إنهاء حربهم الأهلية، التي نشبت في العام 1975 وانتهت عام 1989، بتوقيع الطبقة السياسية اللبنانية اتفاق صلح في مدينة الطائف السعودية؛ تضمن تعديلات على الدستور.
ولا يغيب عن أحد أن الأوضاع الداخلية اللبنانية متشنجة منذ العام 2005، مع اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ثم اغتيال شخصيات أخرى محسوبة على الفريق المناهض للهمينة السورية الإيرانية على البلاد، مروراً بفرض حزب الله معادلات سياسية أمنية مكّنته بطريقة أو بأخرى من الإمساك بمفاصل سيادية من الحكم، وصولاً إلى انطلاق قوات الحزب من لبنان إلى سوريا وغيرها للقتال ضمن مشروع التوسع الإيراني.
الحالة منذ 12 عاما شبه حرب أهلية باردة، بعناوين سياسية وطائفية ومذهبية، كان حزب الله وحلفاؤه يحققون الغلبة فيها على الدوام، بضغط وهج السلاح
تم تلقين الحريري بيانا أعلن فيه استقالته من رئاسة الحكومة أمام كاميرا وحيدة عائدة لقناة العربية، بعيداً عن وجود أي مراسل لبناني
في هذه اللحظة بالذات تعود المملكة العربية السعودية من جديد لإنقاذ لبنان من محنته.. وهذه المرة عن غير قصد، فتستدعي سعد الحريري إلى الرياض على عجل لمقابلة خادم الحرمين الشريفين. لكن قبل المقابلة تم تلقينه بياناً أعلن فيه استقالته من رئاسة الحكومة أمام كاميرا وحيدة عائدة لقناة العربية، بعيداً عن وجود أي مراسل لبناني، حتى من الوسائل المملوكة من الحريري، مثل تلفزيون المستقبل وإذاعة الشرق وجريدة المستقبل، وهي وسائل اعتادت على تغطية النشاطات الهامشية للحريري خارج لبنان، فكيف به وهو يستقيل من رئاسة الحكومة؟
وبعد الاستقالة حدثت أمور مع الحريري يكتنفها بعض الغموض، وراج في الإعلام اللبناني كلام على احتجاز الحريري في فندق ريتز كارلتون الرياض - نظارة توقيف الأمراء والوزراء ورجال الأعمال السعوديين المتهمين بالفساد - ثم ظهر الحريري في قصر اليمامة زائراً للملك، وبعد ذلك مجتمعاً في أبو ظبي مع ولي عهدها ورجل الإمارات القوي، الشيخ محمد بن زايد، ثم عادت الطائرة به إلى السعودية، وليس إلى فرنسا التي يحمل الحريري جنسيتها ويفضل قضاء بعض عطلاته فيها، لا سيما في نهاية السَنة.
رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي كان قبل الرئاسة من أشد المناهضين لسياسة الحريري، لم يقبل استقالته، وحمل بيان قصر بعبدا وتسريباتٌ إعلامية لمقربين منه؛ تشكيكاً واضحاً بظروف استقالة الحريري، حتى أن عون أكد للقائم بالأعمال السعودي في لبنان، وليد البخاري، خلال استقباله، أنه "من غير المقبول الطريقة التي حصلت فيها الاستقالة من الرياض"، مطالبا بعودة الحريري إلى لبنان.
ليس عون وحده من طالب بهذه العودة، بل إن السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله المعني الأول بالاتهامات التي حفل بها بيان الاستقالة، طالب هو الآخر بعودة الحريري، وتساءل عما إذا كان هو في إقامة جبرية مع الأمراء المعتقلين، وعرض تقديم المساعدة للحريري، دون أن يستخدم عبارته الشهيرة "نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون".. لقد استوعب نصر الله بخطابه الشارع السُني الذي يشاطر سائر اللبنانيين في الريبة والقلق على مصير رئيس حكومتهم.
وقد تجلى هذا القلق في بيان مقتضب لكتلة نواب المستقبل أذاعه رئيسها فؤاد السنيورة، ويحمل الكثير من الدلالات، حين أكد إثر اجتماع مشترك مع المكتب السياسي لتيار المستقبل "الوقوف مع الرئيس سعد الحريري، وخلف قيادته قلبا وقالبا، ومواكبته في كل ما يقرره تحت أي ظرف من الظروف".
يبدو لبنان الرسمي والسياسي والشعبي في موقف موحد يرفض استقالة الحريري عن بُعد، ويطالب بعودته على عجل، ويشكك في ظروف إقامته بالسعودية
صديق السعودية، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، بدا هو الآخر مستاء من طريقة إخراج استقالة الحريري، ومطالباً بعودته العاجلة إلى بيروت. وفي تغريدة على تويتر قال جنبلاط: "بعد أسبوع من إقامة جبرية كانت أو طوعية، آن الأوان لعودة الشيخ سعد والاتفاق معه على استكمال مسيرة البناء والاستقرار، وبالمناسبة لا بديل عنه". ويُفهم من العبارة الأخيرة ردٌ وموقف لجنبلاط من معلومات صحفية تحدثت عن طلب دوائر المملكة من آل الحريري "مبايعة" السيد بهاء، الشقيق الأكبر لسعد والموجود حالياً في الرياض.
إذن، يبدو لبنان الرسمي والسياسي والشعبي اليوم في موقف موحد يرفض استقالة الحريري عن بُعد، ويطالب بعودته على عجل، ويشكك في ظروف إقامته بالسعودية التي اعتادت على جمع اللبنانيين وليس تفرقتهم.
مغامرة أخرى لا يبدو أن عواقبها قدرت كما يجب
قراءة أنقرة لأحداث السعودية الأخيرة