واحدة من أقدم مدن العالم، أطلقت عليها الشعوب والأمم التي استوطنتها أسماء مختلفة، فهي "أورساليم" و"أورشليم" و"إيلياء" و"يبوس" "والقدس الشريف"؟
مدينة غزتها الجيوش وعبر أزقتها الفاتحون نحو أربعين مرة في التاريخ.
لا يخلو بيان لمؤتمر قمة عربي، أو لقاء عربي أو إسلامي، من ذكرها.
أنظمة وحكومات عربية صعدت وسقطت باسمها بعد أن تعلقت بأهدابها، وتلمست ببركة جدرانها وأسوارها.
كتبت حولها آلاف الكتب والقصائد، متغنية بقدسيتها وبحجارتها وطرقاتها التي تنثر الزنبق والياسمين على الساكنين أو السالكين، أو مستنكرة وشاجبة لما تتعرض له من تهويد وتهديد.
تحتضن المكان الذي عرج منه سيد الخلق إلى السماء، وأولَى القبلتين، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، المسجد الأقصى الذي ذكر أن بناءه كان بعد بناء الكعبة بأربعين عاما، وقد اختلف المؤرخون في مسألة الباني الأول للمسجد الأقصى على عدة أقوال: إنهم الملائكة، أو النبي آدم، أو ابنه شيث، أو سام بن نوح، أو النبي إبراهيم، ويرجع الاختلاف في ذلك إلى الاختلاف في الباني الأول للكعبة.
وقد انسحب الخلاف حول التحديد الزمني لبناء المسجد الأقصى على تحديد دقيق للفترة التي قدم فيها العرب الكنعانيون إلى أرض فلسطين، سواء كان ذلك في الألف السادسة أم الرابعة قبل الميلاد.
وتجمع الدراسات التاريخية الموضوعية على أن الكنعانيين العرب هم أول الشعوب المعروفة التي جاءت من الجزيرة العربية وسكنت منطقة القدس بشكل جماعي، وتفاعلت مع ما خلفته الحضارة البدائية من أشكال الاستقرار، وطورت ما هو موجود من حياة اتخذت شكل القرية، إلى شكل المدينة، وعُرفت باسم "الدولة المدينة".
وتأثرت مدينة القدس بالعديد من المراحل التاريخية المفصلية، التي ساهمت في تشكيل معالمها الحضارية وظهور العديد من المواقع التاريخية والدينية على أرضها؛ فقد عاش على أراضيها اليبوسيّون الذين ينتمون إلى القبائل العربية الكنعانية، وأطلقوا على القدس اسم "يبوس".
خضعت مدينة القدس للنفوذ الفرعوني بعد الحكم العربي الأول بدءا من القرن 16 ق.م. وفي عهد الملك إخناتون تعرضت لغزو "الخابيرو" وهم قبائل من البدو، ولم يستطع الحاكم المصري عبدي خيبا أن ينتصر عليهم، فظلت المدينة بأيديهم إلى أن عادت مرة أخرى للنفوذ المصري في عهد الملك سيتي الأول ما بين عامي 1317 – 1301 ق.م.
ودام حكم اليهود للقدس 73 عاما طوال تاريخها الذي امتد لأكثر من خمسة آلاف سنة، فقد استطاع داود السيطرة على المدينة في عام 977 أو 1000 ق.م وسماها "مدينة داود" وشيد بها قصرا وعدة حصون ودام حكمه 40 عاما. ثم خلفه من بعده ولده سليمان الذي حكمها 33 عاما.
وبعد وفاة سليمان انقسمت الدولة في عهد ابنه رحبعام وأصبحت المدينة تسمى "أورشليم" وهو اسم مشتق من الاسم العربي الكنعاني "شاليم" أو "ساليم" الذي أشارت التوراة إلى أنه حاكم عربي يبوسي كان صديقا لإبراهيم. (سفر التكوين- 14: 18-20، والرسالة إلى العبرانيين في الإنجيل 6:20،7:1-5).
وفي الفترة الزمنية بين عامي 586-537 ق.م احتل البابليون المدينة بقيادة نبوخذ نصر، حيث تمكن من هزيمة اليهود وأَسَر سكانها ونقلهم إلى مدينة بابل.
وفيما بعد سيأتي الفرس إلى مدينة القدس في الفترة الزمنية بين عامي 537-333 ق.م، بقياد الملك قورش ملك الفرس.
وفي عام 333 ق.م سيطر جيش الإسكندر الأكبر على جميع أراضي فلسطين ومدينة القدس، وظلت المدينة تتبع الحكم اليوناني حتى عام 198ق.م، حيث صارت تتبع لحُكم السلوقيين وانتشرت فيها الحضارة الإغريقيّة.
ما بعد الميلاد أصبحت مدينة القدس تتبع للحُكم الروماني في الفترة ما بين عامي 63 ق.م-636 ميلادية، وأصبحت جزءا من الإمبراطورية الرومانية.
دخل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدينة القدس عام 636 أو عام 638 (على اختلاف في المصادر) بعد أن انتصر الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، واشترط البطريرك صفرونيوس أن يتسلم عمر المدينة بنفسه فكتب معهم "العهدة العمرية" وهي وثيقة منحتهم الحرية الدينية، وغير اسم المدينة من "إيلياء" إلى القدس، ونصت الوثيقة ألا يساكنهم أحد من يهود.
واتخذت المدينة منذ ذلك الحين طابعها الإسلامي واهتم بها الأمويون والعباسيون وشهدت نهضة علمية في مختلف الميادين. ومن أهم الآثار الإسلامية في تلك الفترة مسجد قبة الصخرة الذي بناه عبد الملك بن مروان في الفترة من 682 - 691، وأعيد بناء المسجد الأقصى عام 709، وشهدت المدينة بعد ذلك عدم استقرار بسبب الصراعات العسكرية التي نشبت بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، وخضعت القدس لحكم السلاجقة عام 1071.
اقرأ أيضا: هؤلاء حكموا مدينة القدس عبر العصور (إنفوغرافيك)
سقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099 بعد خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين وبين السلاجقة أنفسهم. وقتل الصليبيون فور دخولهم القدس قرابة 70 ألفا من المسلمين وانتهكوا المقدسات الإسلامية.
واستطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الصليبيين عام 1187 بعد معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها.
ولكن الصليبيين نجحوا في السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلت بأيدي الصليبيين 11 عاما إلى أن استردها نهائيا الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244.
وتعرضت المدينة للغزو المغولي ما بين عامي 1243 و1244، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 1259، وضمت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517.
دخلت جيوش العثمانيين فلسطين بقيادة السلطان سليم الأول بعد معركة مرج دابق ما بين عامي 1615 و1616 وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية.
وأعاد السلطان سليمان القانوني بناء أسوار المدينة وقبة الصخرة. وفي الفترة من عام 1831 - 1840 أصبحت فلسطين جزءا من الدولة المصرية التي أقامها محمد علي ثم عادت إلى الحكم العثماني مرة أخرى.
وأنشأت الدولة العثمانية عام 1880 متصرفية القدس، وأزيل الحائط القديم للمدينة عام 1898 لتسهيل دخول القيصر الألماني وليام الثاني وحاشيته أثناء زيارته للقدس. وظلت المدينة تحت الحكم العثماني حتى الحرب العالمية الأولى التي هزم فيها الأتراك العثمانيون وأخرجوا من فلسطين.
سقطت القدس بيد الجيش البريطاني في عام 1917 بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس تحت الانتداب البريطاني في الفترة ما بين عامي 1920 و1948. ومنذ ذلك الحين دخلت المدينة في عهد جديد كان من أبرز سماته زيادة أعداد المهاجرين اليهود إليها خاصة بعد وعد بلفور عام 1917.
وأحيلت قضية القدس إلى الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، فأصدرت الهيئة الدولية قرارها في تشرين الثاني /نوفمبر عام 1947 بتدويل القدس.
في عام 1948 أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب في فلسطين وسحب قواتها، فاستغلت العصابات الصهيونية حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنت قيام "الدولة العبرية". وفي كانون الأول عام 1948 أعلن ديفيد بن غوريون أن القدس الغربية عاصمة للدولة العبرية، في حين خضعت القدس الشرقية للسيادة الأردنية حتى حرب حزيران/ يونيو عام 1967 التي أسفرت عن ضم القدس بأكملها لسلطة الاحتلال الإسرائيلي.
بعد احتلال كامل القدس عام 1967، باشرت سلطات الاحتلال بإحاطة مدينة القدس بمجموعة من الأطواق الاستيطانية لمحاصرتها وعزلها عن بقية الضفة الغربية وتسهيل اندماجها واتصالها بالمناطق المحتلة عام 1948، حيث أقامت دولة الاحتلال معظم المستوطنات في القدس على أنقاض الأحياء الفلسطينية التي دمرتها في محاولة لتفتيت الوجود العربي، والتخطيط لإخلاء القدس من السكان العرب وخلق أغلبية يهودية بداخلها.
ومن المؤكد أن الوجود اليهودي في القدس كان عابرا ومؤقتا، شأن غيرهم من الأمم والشعوب التي غزت فلسطين، وأن الحديث عن "الهيكل" كان مقترنا دائما بسياسات توسعية استيطانية لا علاقة لها بالدين وبالتاريخ.
الوجود اليهودي كان على طريق القوافل والجيوش الفاتحة ولم يكن مستوطنا دائما، وكيانهم السياسي لم يقم بهذه الأرض إلا في فترة متأخرة جدا ولبضع سنوات لا تكاد تتجاوز 75 من بين 50 قرنا على هذه الأرض المباركة وهي مأهولة متحضرة.
وتوالت عشرات القرارات الدولية والأممية الصادرة عن الأمم المتحدة وعن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) التي أكدت أنه "لا سيادة إسرائيلية على مدينة القدس"، مع إدانة أعمال الحفر الإسرائيلية تحت المدينة المقدسة.
وصوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، بأغلبية ساحقة "ضد تبعية مدينة القدس المحتلة لإسرائيل".
وقد رفع الأداء الفلسطيني والعربي والإسلامي الضعيف والمتهافت من وتيرة التحركات الإسرائيلية والأميركية لابتلاع ما تبقى من المدينة، ومحو هويتها العربية الإسلامية، وشجع وساهم في تنفيذ سياسات وتطلعات المشروع الصهيوني العالمي على القدس في الفترة الماضية.
وعزم الإدارة الأمريكية نقل سفارتها إلى القدس المحتلة، هو جزء من خطة واسعة ومرحلة في سلسلة متصلة من المراحل التي تقودها الإدارة الأمريكية في عهد ترامب، التي تؤمن وتنسجم من منطلقات دينية بالمشروع الصهيوني، وتسعى لتنفيذ أجندتها الدينية في القدس والأقصى.
وهذه الخطوة الخطيرة ستتبعها خطوات أخرى، وإن لم يستيقظ الجميع لصد هذه الخطوة، سيكون العرب والمسلمون أمام واقع صعب في المستقبل القريب، وإن مروا فهذه المرة سيكون إعلان سقوط آخر حصون العرب.