لا أكتمكم القول أنه بعد دراستي للسياسة كل تلك الفترة وتدريسي لها، فإنني أقف مشدوها ومشلولا في التفكير حيال ما يحدث على مسرح السياسة العربية والأقليمية.. أراجع ما درست، وأرجع إلى ما كتبت، وأتفحص صفحات التاريخ الماضي، وأتصفح الحوادث بتتابعها وتفردها.. ولكنني أعترف أنه لم يمر عليّ مثل ما يظهر على مسرح السياسة من أحداث خارج دائرة المقبول والمعقول.
فمنذ أن صعد "ترامب" إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، بانتخابات هي موضع تساؤل وتحقيق، ويجتهد الناس في التفكير حول كيف صعد هذا الرجل إلى سدة الحكم؟! فقد استبعد كافة المحللين والخبراء أن يصعد إلى الرئاسة، ولكنه وصل إلى سدة الحكم، ومارس بعض من مواقفه العجيبة والغريبة التي تستعصي على التحليل والتفسير، إلا أن ذلك ما لبث أن صار أمرا محكوما من خلال دولة المؤسسات الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كشرت عن أنيابها، وبدا لها من الضروري أن تقلم أظافر هذا الرئيس القادم إلى البيت الأبيض، والذي يتسم في بعض مواقفه وسياساته وتصريحاته بالخفة والانفلات والارتجال.. الأمر هنا مع كل ذلك يمكن أن يُتحكم فيه.
من الغرائب أن تمارس تلك السياسة في صور متعددة من المراهقة ومن البلطجة، من دون أدنى رادع ومن غير وجود مؤسسات حقيقية
إلا أن مشهد السياسة العربية يختلف عن ذلك. فمن الغرائب حقا أن تمارس تلك السياسة في صور متعددة من المراهقة ومن البلطجة، من دون أدنى رادع ومن غير وجود مؤسسات حقيقية. إذا أردت أن تعرف السياسة، فهي الحكم بالهوى وبالمزاج، فما يراه صاحب السلطة ونفاذ الأمر يصير سياسة معتمدة واستراتيجية مطبقة. يأتي الجميع ضمن هندسة الإذعان، والقبول وضمن حالة الانصياع العام، يباركون ذلك، حتى لو كان يناقض سياسات الأمس. هذه هي قوانين البطانة والسدنة لدينا؛ التي تسوغ لكل شيء وتبرر لأي شيء. يشكل ذلك قانونا يحكم اللاقانون، وحالة العشوائية في السياسة التي لا نعرف لها أصل ولا فصل، سوى أن يكون ذلك مشيئة من يحكم ضمن مقولات عدة من أن "أحلام سعادتكم أوامر"، وأن "أي شخبطة أو خبط عشواء هي تخطيط لمستقبل البلاد"، طالما صدرت عن صاحب السلطة والصولجان.
سياسات الهوى تلك كثيرا ما قرأت عنها في التراث، ولكن يبدو أن هذه السياسات الآن تدار بشكل أخطر من كونها مجرد سياسات هوى. فهذا الحاكم الذي حرّم "الملوخية" مثلا، لا يترتب على قراره ذلك من أمور خطيرة سوى أن أناسا ستحرم من أكل الملوخية، أما أن تؤدي السياسات إلى صناعة الحروب وقتل النفوس وإراقة الدماء، فإن ذلك شأن خطير.
أقول ذلك بمناسبة أن دولة تمارس بلطجتها، فتدعو رئيس وزراء بلد صغير ثم تختطفه وتحدد إقامته، وترغمه على أن يستقيل على أرضها
أقول ذلك بمناسبة أن دولة تمارس بلطجتها، فتدعو رئيس وزراء بلد صغير ثم تختطفه وتحدد إقامته، وترغمه على أن يستقيل على أرضها؛ في خطاب كُتب له ومفروض عليه.. بلطجة حتى ليست على أصول البلطجة، ولكنها بلطجة مغموسة بالمراهقة، تؤدي إلى أن تحول المنطقة لأن تكون كلها على صفيح ساخن، وتطرق أبواب الحروب وطبول القتال، وتخرج معزوفات من مارشات تؤهل الناس إلى حرب قادمة، لماذا؟ لأن هناك شابا صغيرا قرر أن تكون تلك سياسته، بغض النظر عما يترتب على ذلك من إضافة عدم استقرار إلى حالة من عدم الاستقرار، وإضافة حرب أخرى إلى حروب قائمة، والشروع في قتال وقد فشلنا في قتال قبله. فإذا كان الأمر هكذا، فلنغلق الطرق، ونعلن الحصار، ونسد المنافذ، وليموت من يموت.. حالة مراهقة عنترية وبلطجة لا يمكن أن أصفها بأنها "سياسية"، فلم يرد علينا ذلك في قاموس السياسة أو في بعض تاريخها الأغبر، ولم أعثر على شيء في غياهب ذاكرتها يمثل ذلك الذي يحدث من قرارات طائشة ومواقف بائسة وسياسات خاطئة، واستراتيجيات هي في الحقيقة ليست باستراتيجيات تقدم رؤية حالمة وأضغاث أحلام، بل هي أقرب إلى الكوابيس من جراء تخمة أصابت هذا العقل الصغير، فأحدثت جملة من التصرفات، وقرارا بعد قرار لا يمكن وصفه إلا بالخاطئ والخطير.
إن ما يحدث في الإقليم الآن، من جراء سياسات الهوى، لا يمكن إلا أن يجر المنطقة إلا إلى أخطار ماحقة لا يمكن مواجهتها. إنها بحق أمة صناعة الضرر، لا أمة دفع الضرر.. تصنع الأضرار على أعينها، وتحيك المخاطر من دون مؤامرات عليها. هذه الأمة، بقيادتها العليلة والكليلة المستبدة والفاشلة، والتي تتهاون في كل شيء، هي التي تتآمر على نفسها، وتطلق العنان لمغامراتها. والأرض تميد من تحتنا لا نعرف لها قرارا أو استقرارا، حتى الدول الغربية التي يتصور أنها تصنع ما أسمته بالفوضى الخلاقة في منطقتنا؛ صارت تشير إلى أن تلك السياسات لا تحمل أي أمر خلاق، بل هي تحمل فقط فوضى غير خلاقة لا تحتمل. الدول الغربية تصرخ للحفاظ على مصالحها، وتتحدث عن أنه ليس على هذا النحو تورد الإبل. أما هؤلاء الذين اشتهروا بمعاشرتهم حال الإبل والجمال في البادية، ففقدوا أي بوصلة في التعامل مع تلك الإبل، ولو حتى بعقل البادية. ماذا يعني كل ذلك؛ إلا أن تأتي كل هذه الأمور على هذا النحو، فتخلق أحوال اضطراب وفتنة عظيمة؛ حينما تترك العقول الصغيرة تعبث بمقدرات الأمم وحقائق السياسة وفروض التعامل والتدبير. كل هذا لم يعد له من تأثير، إلا أن يقول صاحب السلطة ويؤمّن عليه علماء منافقون، وسدنة مطبلو،ن وبطانة يؤمّنون وينفذون.
ما يحدث في الإقليم الآن، من جراء سياسات الهوى، لا يمكن إلا أن يجر المنطقة إلا إلى أخطار ماحقة لا يمكن مواجهتها
إن ما يحدث في اليمن وقطر ولبنان، مضافا إلى ما حدث قبل ذلك في مصر وسوريا وليبيا، وما يحاك في الخفاء ضد تونس، وما يلوح به لدول أخرى وقفت على الحياد وقامت بدور الوساطات، مثل الكويت وعُمان، أمر لا يصدق. ماذا يمكن أن يتبقى بعد ذلك إلا أن جعلنا هذه المنطقة ميدانا لبعض العابثين؛ يتلاعبون بمقدرات الأمور والثوابت التي تؤدي إلى الحدود الدنيا في استقرارها؟ ماذا يعني ذلك سوى أننا نتآمر على أنفسنا ونصنع الضرر لأمتنا؟! ماذا يعني كل ذلك حينما يتحكم ويحكم المراهقون ويمارسون أساليب البلطجة باسم السياسة، ويلونونها بمعاني الحزم؟ أي حزم هذا في تفكير يختطف القيادات في دول أخرى، بل ويختطف الشعوب والدول، ويحرك كل ما يتعلق بتوريط هذه المنطقة وتسليمها إلى حالة الحرب، وإلى إراقة الدماء التي أصبحت تنزف بلا حساب وبلا مساءلة أو عقاب. كنت أقول وأدعي أنني أفهم في السياسة، ولكنني هذه المرة، وفي تلك الفترة بصدق مع كل ما تعلمته في السياسة، وكل ما درسته في ميادينها ومجالاتها لم يعد صالحا لتفسير حالة إدمان العشوائية والمراهقة والبلطجة؛ التي هذه المرة لا تمنع أكل الملوخية، ولكنها تتفنن في إراقة مزيد من الدماء واختطاف الشعوب، مع قلة عقل منقطع النظير، ومع فائض مراهقة ليس لها نظير ومع ممارسة أساليب بلطجة لا يعرف لها مثيل.