(1)
لسبب لا أعرفه، أو أعرفه جيداً، انفطر قلبي بالبكاء على العلن أمام الكاميرا. لم أسمح للضوء باقتحام خصوصية دموعي، فقد كنت في موقف مقاومة، ولا ينبغي للمقاوم أن يكشف ضعفه، لهذا خرجت من الكادر مسرعا، لأنخرط بعدها في ليلة من الدموع والتأملات.
(2)
لا أكره هذه الحالة، ولا أخجل من ضعفي، لكنني حاولت التعرف على سر الدموع هذه المرة، واكتشفت أن السبب ليس جديدا تماماً، وأن كل ما أكتبه قد يتطابق مع أسباب البكاء في لحظات الترميم السابقة للروح.. فقد صرت غريباً أكثر مما ينبغي، وصرت قريباً أكثر مما أحتمل!
اللحظات لاهثة، والوقت لا يمضي إلى مكان ما، إنه ينطفئ مثل رماد سيجارة الأحلام التي لا تشبعني ولا تبتعد من بين أناملي!
الوقت يراوغني، حتى بت أخاف من أن أستيقظ غداً فلا أجد رصيداً من العمر؛ يسمح لي بفرصة أخيرة من الفرص التي أهدرها برعونة مزعجة. وكما تعرفين وتعيشين يا حبيبتي، لا يزال الوقت في هذه الأيام المكسورة، سمجاً ولزجا وثقيلا، يصعب التخلص من بقاياه المتعفنة.. أعرف أن التحول سمة الأشياء.. كل الأشياء (وأنا من بينها).. وأنا عندما أتحول إلى شيء، تبدو تناقضاتي قريبة من بعضها ومن الآخرين.. تبدو كأسلاك متشابكة داخل قنبلة قابلة للانفجار بمجرد العبث بها، لذلك يا حبيبتي لم يعد هناك حل إلا فتح المسارات للزمن الراكد.. لم يعد هناك حل إلا بالتخلص من حالة التعفن العبثي الناجمة عن الرقاد الكسول داخل كهف الوحدة الخانقة.
(3)
هذا أنا.. أو بعض مني..
لكن من أنت؟
من أنت يا حبيبتي؟
من أنت يا مصر؟
من أنت أيتها الثورة التي تراودني كلما أدرت وجهي إلى غيرها؟
من أنت أيتها الأحلام السابحة في فضاءات اليوتوبيا؟
من أنت يا حبيبتي الحائرة؟
صدقيني في السؤال، فأنا عندما أحزن لا أعرف من أنا، ولا أعرف من أنتِ، ولا أعرف من نكون! لأنني أصدق حزني أكثر مما أصدق هذا الواقع المُحزن، ربما لأنني بعد احتلال الحزن للروح؛ قد استسلم له قليلا، وقد أصاحبه، وقد أغفر له ناره الحامية، لكنني لا أستسلم ولا أصاحب ولا أغفر للمُحزن. قد أتقبل "الفعل" إذا ساهمت ناره في تطهير الروح وليس حرقها، لكنني لا أتقبل "الفاعل".. ولا أغفر لصانع الحزن جريمته.
(4)
أخذتني تأملاتي ليلة أمس إلى تلك الصورة، وأتمنى لو تشاركيني التفكير فيها:
"العابر في الصحراء هو ذاته الذي يصنع السراب، والسجين عادة ما يحلم بنافذة، لا تلبث أحلامه أن تتحول إلى أجنحة يطير بها في سماء واسعة وهو لايزال لحما مشلولا في قاعة زنزانته الرطبة؛ لذلك لا أراهن على معرفتك من خلال رؤيتي المموهة بالأحلام والأوهام"..
(5)
حبيبتي..
عندما تبتعدين أراك أكثر صفاء.. تنبت في روحي الذكريات ويزدهر الحنين، وأمد يدي لأرسم غدنا بألوان الطيف. لكن هذا "الغد الواقعي" عندما يأتي يصدمني بحقيقته الزائفة، فهو ليس إلا "الأمس نفسه" بكلماته المكررة، وبرامجه النمطية المملة، وأفقه المسدود.
سئمت من هذه الدائرة الجهنمية التي تصلبني بين واقع لا أريده ولا أرضى عنه، وبين حلم يراوغني بالمراوحة بين إغواء لا يتيح لي أن أمسكه، وصد لا يصل بي إلى درجة اليأس..
صوت جرس العمر صار أقوى في أذني، ويحرض أقدامي على حث الخطى، لكن الظهر مثقل بما أعرفه، وما لا أعرفه.
(6)
حبيبتي..
لقد صارت الأحلام أحمالا، ولم أعد أعرف منها ما نريد وما لا نريد، فقد خيم الظلام، وتقاطعت الطرق، وشح الزاد، وتزايد الأعداء في ذلك الشوط القصير الباقي من العمر..
الأسئلة العصية المتكررة، صارت عبئا على الروح، وعلى العقل.. صارت عبئا على الذات، على الأمل، وعلى الآخرين.. أنا نفسي صرت عبئا عليَّ، وعلى الآخرين، صرت أرهق الجميع، والجميع يرهقونني.
(7)
حبيبتي..
هل كان حبك حلماً.. أم وهما؟/ حِملاً.. أم طوق نجاة؟
هل تصورتِ أنك عثرت أخيراً على فارسك المنتظر.. فوجدت فارساً جريحاً مطارداً ينشد جرعة ماء أو خيمة للإيواء؟
هل التقينا فعلاً في ذلك الميدان الكبير تحت سقف الأحلام العظيمة؟
هل أمطرت السماء في تلك الأيام الثمانية عشر من الحناجر والعيون؟
أم أننا كنا نهذي بما لا نعي، ونعد بما لا نملك، ونحلم بما لا يتحقق؟
(8)
حبيبتي..
أنا مرهق.. ليس لأنني أحارب عدواً ما، أو أصعد جبلاً ما، أنا مرهق لأنني أطارد المستحيل.. فهذا الواقع الضحل لا يكفيني.. لا يشفي أوجاع روحي، ولا يسكت أنين أحلامي...
أقولها لك يا حبيبتي، وأرجو أن تغفري لي شغفي بالمطلق، إيماني بالفردوس: لن يشبعني ولن يرويني.. إلا المستحيل، ولا بديل... لا بديل.
(9)
حبيبتي..
هات يدك، سنواصل.. لا بديل
لا بديل..
بلدي لا بديل
ب ل د ي لا ب د ي ل
بلدي:
سنمضي..
سنمضي....
____________
* نسيت أن أوضح لك مغزى العنوان يا حبيبتي.. فهو لا يحاكي روايات فرانسواز ساجان في شيء، فقط أردت أن أخبرك أنني عندما ألتقي الحزن لا أقول له أبداً: "صباح الخير"، بل أتعامل معه كضيف عابر في الليالي، وليس صديقاً يليق به أن يشاركني بضوء النهار، لذلك أقول له دائما: وداعاً، وفي حال رغبته بالبقاء لفترة معي، أقول له عادة: مساء الخير أيها الحزن... لأن "صباحات الخير" عندي محجوزة للأصدقاء ورفاق الطريق.. للبهجة والنصر والأمل.