تشيع في الأدبيات الدينية المتداولة مقولات، يرفعها بعضهم إلى مصاف القواعد
الشرعية المحكمة، إلا أنها تواجه بانتقادات شديدة وقاسية، لأنها لا تستند إلى أدلة شرعية صحيحة، ولا تعدو أن تكون مقولات رفعتها الممارسة الدينية في بعض الأوساط إلى مصاف الأصول الشرعية وهي ليست كذلك بحسب منتقديها.
"لا يفتي قاعد لمجاهد" إحدى تلك المقولات الشائعة والمتداولة، والتي غالبا ما تستدعيها الحركات الجهادية وأنصارها لمواجهة ما يقال في انتقاد أفكار تلك الحركات ومعارضة مواقفها وسياساتها، وبعبارة أدق لإسكاتهم ومنعهم من الخوض في تقييم أداء تلك الحركات، وبيان الرأي الشرعي في ممارساتها السياسية المقلقة.
وبعد الجدل الذي أثارته المصالحة بين السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، وحركة حماس في غزة، والتي أفضت إلى جملة من التفاهمات بين الجانبين برعاية مصرية، تم استدعاء مقولة "لا يفتي قاعد لمجاهد" بكثرة من أنصار حماس على مواقع التواصل الاجتماعي، في دفاعهم عما أقدمت عليه الحركة باعتبارها الأقدر على تقدير المواقف واتخاذ القرارات المناسبة.
منتقدو تلك المقولة يصفونها بأنها "لا تستند إلى أصل شرعي، ولم يرد في كتب الفقه والأصول ما يؤسس لها، بل إن الأمة أجمعت (بالتتبع والاستقراء) على أن ذلك ليس من شروط المفتي" وفقا للباحث الشرعي المصري، المتخصص في الفقه الإسلامي وأصوله، علي ونيس.
وأوضح ونيس لـ"
عربي21" أن العلماء اشترطوا في المفتي أن يكون عالما بالواقع (المحكوم فيه)، كما يكون عالما كذلك بالنصوص (المحكوم به)، لكن لا يلزم من اشتراط هذا أن يكون المفتي ممارسا لكل ما يفتي فيه".
وأضاف: "ولو كان الأمر كذلك؛ لكان لزاما على كل مفت أن يمارس كل عمل يستفتى بشأنه قبل أن يفتي فيه، وهذا مما تنفيه العقول فضلا عن أن يكلف الشرع به".
وبيَّن الباحث الشرعي ونيس أن "القرآن الكريم نص على أن أهل الفقه والفتيا يتخلفون عن الجهاد بالسيف لفائدة عظيمة لا تقل عن الجهاد، وهي طلب العلم، الذي من فوائده تعليم المجاهدين إذا فرغوا من الجهاد، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة: 122].
وطبقا لونيس، فإن ما يُفهم من الآية الكريمة "أن الصحابة كانوا ينقسمون قسمين: قسم يخرج للجهاد مع السرايا التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم يقيم معه، فإذا رجعت السرايا علموهم وفقهوهم ما تلقوه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام".
وأشار ونيس إلى "أن الأحكام الشرعية التي تصدر عن المفتي أو الحاكم، تبنى على أصلين أساسيين: أحدهما معرفة أدلة الأحكام، وفهم مراد الشارع منها..، وثانيهما: معرفة الواقع الذي يُراد من المفتي أو الحاكم تنزيل حكم الله عليه، لأن الأحكام شُرعت لتطبق في حياة الناس، وليست مجرد نصوص جامدة لا علاقة لها بالواقع".
وذكر ونيس أن المراجع الأصولية المعتبرة حددت الشروط الواجب توفرها في المفتي، وليس منها أن يكون مقاتلا أو مجاهدا، أو مقيما بمناطق الثغور، بل يُؤخذ بقول العالم أيا كان موقعه، ويُترك قول الجاهل أيا كان مكانه وعمله".
وتابع قوله: "لم يكن كثير من الأئمة وأهل العلم المعروفين من أهل الغزو، كالأئمة الأربعة إلا أنَّ ما كتبوه وأفتوا به في باب الجهاد كان وما يزال عمدة في الفقه الإسلامي، ومرجعا للعلماء في كل العصور"، مؤكدا على أن "ما يجب على الفقيه هو أن يعرف حقيقة ما يفتي به معرفة حقيقية تمكنه من تصور المسألة تصورا صحيحا، يُبنى عليه الحكم الشرعي".
من جهته قال الكاتب والباحث الفلسطيني، ساري عرابي: "لا يُعرف لمقولة "لا يفتي قاعد لمجاهد" أصل شرعي من الكتاب والسنة، ولا مسلكية اجتهادية مبنية عليها طوال تاريخ المسلمين، وإن كانت هذه المقولة ربما مبنية على الأثر المنسوب لسفيان بن عيينة "إذا اختلف الناس في شيء ما فالأمر ما عليه أهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)".
وأضاف عرابي في حديثه لـ"
عربي21": "وقد نسب ابن تيمية هذا الأثر لعبد الله بن مبارك، وأحمد بن حنبل، ولم أجد إسنادا للأثر يصل إلى ابن المبارك أو أحمد بن حنبل، وإنما وجدت الإسناد إلى سفيان بن عيينة، فلو صح عنه ذلك، فهو قوله أولا وأخيرا، ولا يمكن حمله على إطلاقه، لا سيما وأن كثيرا من فقهاء الصحابة، ومن بعدهم ممن عليهم مدار
الفتوى في الأمة لم يكونوا من أهل الثغور".
ووفقا لعرابي فإن "
الفقهاء كتبوا في السير، أي في أحكام الجهاد، وهم ليسوا من أهل الثغور، كما نجد في كتب الفيء والغنيمة، والجهاد والجزية، وقتال أهل البغي والردة، وقتال المشركين، وسير الواقدي، وسير الأوزاعي للشافعي، أو كتب السير الصغير والسير الكبير لمحمد بن الحسن، تلميذ أبي حنيفة.. وأحمد الذي نسب إليه ابن تيمية هذه المقولة له فتاوى في الجهاد والثغور وأهلها وهو ليس منهم..".
وجوابا عن سؤال: ما هي السياقات التي غالبا ما تُستدعى فيها تلك المقولة؟ قال عرابي: "تستخدم هذه المقولة التي لا أصل لها من جهة الاعتبار الشرعي، سوى اتكائها على مقولة منسوبة لسفيان بن عيينة، في سياقات التسويغ والدعاية التي تنتهجها بعض الجماعات الإسلامية، ولا سيما التيار السلفي الجهادي، الذي احتكر في ممارسته القتالية والخطابية طوال السنوات الماضية مسمى الجهاد، وأقصى عنه حتى الحركات الإسلامية ذات البعد الوطني في جهادها".
وأكدَّ الكاتب والباحث الفلسطيني عرابي أن "هذه المقولة يجري استخدامها ذرائعيا ودعائيا فحسب، ويضيق معها ويتسع تعريف المجاهد والقاعد بحسب الطرف الآخر الذي يجري السجال معه.. كما أنها تستخدم في سجالات سياسية وفكرية لا علاقة لها بالتخصص الفني الحربي أو اللوجستي، أو ما اتصل بظروف الميدان"، مبينا أن "موضوعات الفكر والسياسة حتى لو اتصلت بالجهاد لا تحتاج تخصصا فنيا أو انغماسا مباشرا في الجهاد، أو في ميدانه الجغرافي".
وفي السياق ذاته وصف الباحث الشرعي السوري، علي زينو مقولة (لا يفتي قاعد لمجاهد) "بأنها بدعة من بدع الغلاة، وليس عليها أثارة من علم، ولا وجود لها في شيء من كتب العلم، ولا زال كبار أئمة الإسلام جيلا بعد جيل يُفتون ويؤلفون كتبا في الجهاد الشرعي المختلف عما يمارسه غلاة زماننا، من غير أن يكونوا في ساحات الوغى، وميادين الحروب".
وردا على سؤال "
عربي21": متى شاعت وانتشرت تلك المقولة في أوساط بعض المسلمين؟ قال زينو: "بحسب علمي لم تظهر هذه المقولة إلا في العقود الأخيرة على أيدي متطرفي بعض تنظيمات السلفية الجهادية".
تكمن خطورة استدعاء هذه المقولة في أنها دائما ما تُساق لإسكات كل المخالفين والمنتقدين لتوجهات وممارسات بعض الحركات الجهادية، باعتبارهم قاعدين لا يحق لهم إصدار الفتاوى والنصائح للمجاهدين، مع أن في صفوف من يصفونهم بالقاعدين من يرابط على ثغور العلم والدعوة، وحمل قضايا الأمة وهمومها، فما المانع من استشارتهم والأخذ بفتاويهم، والاستنارة بآرائهم كما يتساءل باحثون؟