السّائد، في الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة، أنّ فكرة "الحاكمية" تعود في جذورها إلى المفكر الباكستاني "أبو الأعلى المودودي"، (المتوفّى في العام 1979م)، وأنّ المفكر المصري "سيّد قطب" هو الذي طوّرها لاحقاً، وتولّى نشرها.
غير أنّ د. بسطامي محمد سعيد خير؛ يلحظ أنّ فكرة "الحاكميّة" كانت مدار بحث المفكرين الأتراك منذ حوالي منتصف القرن التاسع عشر، مرجّحاً أن يكون "أوّل من بحث الحاكمية من مفكري الأتراك المعاصرين هو الصحفي نامق كمال (المتوفّى في العام 1880م)، وهو أحد مؤسسي جمعية تركيا الفتاة ومن قادتها البارزين".
يلحظ خير أنّ نامق كمال كان "متأثراً بأفكار الثورة الفرنسية؛ إذ عاش فترة في باريس، وكان يؤمن بمبدأ "حاكمية الشعب" الذي نادى به الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسّو؛ ولكنّه سمّاها "حاكمية الأمة" بدلاً من حاكمية الشعب، وذهب إلى أنّ الضمان الوحيد للحرية الفردية هو القانون. ولكنّ مصدر القانون في نظره ليس هو الإرادة العامّة للأمة، كما زعم روسو، لأن مفهوم الإرادة العامّة غير محدد وغامض، وليس مصدر التشريع إرادة الأغلبية، لأنها يمكن أن تستبدّ وتتسلّط على الأقلية، إنما ينبغي أن يكون مصدر التشريع مصدراً خارجياً، له القدرة على تحديد الحسن والقبيح؛ وذلك المصدر عند المسلمين ما هو إلا الشريعة الإسلامية.
أياً يكن من أمر، انتشر مفهوم الحاكمية في أوساط الحركة الإسلامية بفضل الجهود التي بذلها المودودي للتنظير له من داخل الفكر الإسلامي؛ وتقوم محاججته وفق المنطق التالي: بما "أن الله تعالى هو خالق هذا الكون كله وخالق الإنسان نفسه، وخالق سائر الأشياء التي يستفيد منها الإنسان في هذا العالم"، وبما "أن الله هو مالك هذا الخلق وحاكمه ومدبّر أمره"، ينتج عن ذلك أمران، أحدهما: "أنّ الحاكمية في هذا الكون ليست لأحد غير الله ولا يمكن أن تكون لأحد سواه وليس لأحد الحقّ في أن يكون له نصيب منها"، والآخر: "أن جملة صفات الحاكمية وسلطاتها مجتمعة في يديه سبحانه وليس في هذا الكون أحد قطّ يحمل هذه الصفات أو ينال هذه السلطات.. هذه الصفات كلها (صفات الحاكمية) يختصّ بها سبحانه ولا شريك له فيها أبداً".
انتشر مفهوم الحاكمية في أوساط الحركة الإسلامية بفضل الجهود التي بذلها المودودي للتنظير له من داخل الفكر الإسلامي
في كتابه "المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم"، يخلص المودودي إلى القول إنّ "أصل الألوهية وجوهرها هو السّلطة"، وأنّ ما "يستدلّ به القرآن في هذا الشأن هو أنه لا يملك جميع السلطات والصلاحيات في السماوات والأرض إلا الله". (ص 13).
ووفقاً لهذه القراءة، التي تُماهي بين الإلوهيّة والسّلطة، خلص المودودي إلى أن الدين بذاته لا يبعد عن جوهر السّلطة شيئاً. وقد ترتّب على ذلك، عنده، المُماهاةُ بين "إقامة دين الله"، و"إقامة الحكومة الإسلامية" و"إقامة النظام الإسلامي".
استفزّت هذه الخلاصة أحد أقرب المقربين من المودودي، هو أبو الحسن الندوي، الذي كتب يقول: "ما تدلّ عليه دراسة كتاب الأستاذ أبو الأعلى المودودي "المصطلحات الأربعة في القرآن"، والشيء الكثير من كتاباته، من أنّ الصلة بين الله والإنسان، والعبد والرب، هي في الواقع صلة بين الحاكم والمحكوم، وصلة الرعيّة والمَلِك، وأنّ صفة "السّلطة العليا" و"الحاكميّة المطلقة" هي الأصل من بين أسماء الله الحسنى وصفاته السامية الكثيرة". (التفسير السياسي للإسلام، ص 77). بعبارة أخرى، رأى الندوي أن مفهوم "الحاكمية" كما يقدّمه المودودي يبتعد عن معنى العبادة التي يجب أن تكون قائمة بين الله والإنسان على قاعدة التضرع والخوف، وينحو بها نحو ما يشبه العلاقة القانونية السلطوية، ثمّ هي تنسب إلى الله تعالى صفات لم ترد في القرآن الكريم.
وبهذا، يثير مفهوم الحاكمية، بالشكل الذي قدّمه به المودودي، إشكالية تتأتّى من الخلط بين مفهوم "السّلطة" القانوني، المستقى من الغرب، ومفهوم "الحُكم" القرآني، حتى ظنّ أنّهما واحد، وهو الأمر الذي أدّى به إلى المُماهاة بينهما. فالمفهوم الذي يقدّمه المودودي للحاكمية يخلط بشكل تامّ بين "التشريع" و"التنفيذ".
يثير مفهوم الحاكمية، بالشكل الذي قدّمه به المودودي، إشكالية تتأتّى من الخلط بين مفهوم "السّلطة" القانوني، المستقى من الغرب، ومفهوم "الحُكم" القرآني
في المقابل، ورغم استخدام سيد قطب للفظ الحاكمية بكثرة في كتاباته، إلا أن مفهومها كان مضطرباً في كتاباته بين كونها تختص بالتشريع أو بالتنفيذ أو كليهما معاً. فلا يوجد في كتابات سيد قطب أي مستند يمكن بناء عليه الادّعاء بأنّه تبنّى نظرة المودودي ذاتها إلى الحاكمية. بل إن الحاكمية لدى قطب لها خط واضح هو: "إعادة إنشاء هذا الدين في نفوس الناس"، وهو خط يختلف تماماً عن خط "الدستور" و"القوانين" الذي سارت فيه الحاكمية لدى المودودي.
يلفت المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين، الشيخ حسن الهضيبي، في كتابه "دعاة لا قضاة" إلى ضرورة التمييز بين "تحكيم شرع الله" و"إنفاذ حكم الله"، فيقول: وليس أبين في أنّ التّحاكم إلى شريعة الله لا يتوقّف على وجود وليّ الأمر المسلم من ذات النصوص، مؤكداً أن لفظ "الحكم"، كما ورد في القرآن الكريم، يقصد به التشريع حصراً.
ما يمكن أن يخلص إليه نقاش مفهوم "الحاكمية" أنه نشأ كردّ فعل على الغزو الغربي لبلاد المسلمين. فقد ناقش الأتراك المسألة إبّان الاحتكاك المباشر بالثقافة الغربية، يوم كانت أوروبا تموج بالطروحات الراديكالية، ويوم أن بلغ الاحتدام أشدّه بين العلمنة والسلطات الدينية. وناقش المسلمون الهنود (وعلى رأسهم المودودي) مسألة "الحاكمية" كردّ فعل على الغزو البريطاني المباشر، وعلى فرض نمط الإدارة والنظام السياسي الغربي على بلاد المسلمين.
فكرة الحاكمية استطاعت، إلى حد كبير، إعادة شحذ الطاقات والهمم باتّجاه مقاومة عملية التغريب والأوْربة، عبر التركيز على خاصية من أهم خصائص الدين الإسلامي
لا شكّ في أنّ فكرة الحاكمية استطاعت، إلى حد كبير، إعادة شحذ الطاقات والهمم باتّجاه مقاومة عملية التغريب والأوْربة، عبر التركيز على خاصية من أهم خصائص الدين الإسلامي، وهي أنّ المسلمين لا يكونون مسلمين ما لم يحتكموا إلى شرع الله تعالى، وما لم يتحاكموا إلى كتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فلا خلاف حول الجانب التشريعي من الحاكمية بين المسلمين، بل هو عين الحاكمية وجوهرها، بل وحدّها أيضاً. وقعت الإشكالية حين تمّ إلصاق البعدين السياسي والتنفيذي بالحاكمية. وربما لهذا السبب، نأى سيد قطب بنفسه عن كلّ إشارة إلى البعد السياسي أو التنفيذي لها. لكن الأكيد هو أنّ الهضيبي، قد أوضح هذه النقطة بشكل تام حين دعا إلى ضرورة التمييز بين "تحكيم شرع الله" من جهة، و"إنفاذ حكم الله" من جهة ثانية، مصرّحاً أن الحاكمية لفظ لم يرد في كتاب الله، ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة.
يرتكز النظام السياسي الإسلامي إلى مفهوم الأمة لا إلى مفهوم الدولة، وإلى مفهوم "الموالاة بين المؤمنين"، لا إلى مفهوم العقد الاجتماعي
ومع ذلك، يبقى السؤال: من الذي عليه إقامة شرع الله؟ الأجدى البحث في الإجابة على هذا السؤال في مفهوم "الأمة"، كما ورد في القرآن الكريم. فالأمّة (وليست
الدولة القومية الغربية) هي الوحدة السياسية الأساسية في الإسلام. وشتان بين الأمة والدولة، فهذه الأخيرة لا يمكن لها أن تستوعب الأمّة، ولا أن تكون تعبيراً سياسياً لها.
يرتكز النظام السياسي الإسلامي إلى مفهوم الأمة لا إلى مفهوم الدولة، وإلى مفهوم "الموالاة بين المؤمنين"، لا إلى مفهوم العقد الاجتماعي. فالأمّة، كما قال الهضيبي، حين تقرر تحكيم شرع الله فإنها ليست بحاجة إلى سلطة ولا إلى حكومة ولا إلى خليفة، بل إن بوسعها أن تفرض ذلك على كل السلطات في الأرض. وإذ ذاك يكون الحكم لله فعلاً لا شعاراً.
أما الآليات التي تستطيع من خلالها الأمة تحكيم شرع الله، فلذلك بحث آخر.