نشرت صحيفة "ديلي تلغراف" تقريرا للصحافية جوسي إنسور، تتناول فيه
المشكلات النفسية التي تواجه
أطفال العراق في مرحلة ما بعد
تنظيم الدولة.
وتبدأ الكاتبة تقريرها بالإشارة إلى حالة الطفلة أمينة (4 أعوام)، التي فقدت النطق بعدما ضربت قنبلة هاون بيتهم وقتلت والدها، وتقول والدتها مريم إن أمينة كانت "نور عيون والدها"، وربما كانت واحدة من بين خمس بنات لمحمود، الذي كان يعمل ميكانيكيا، إلا أن العلاقة بينهما كانت وطيدة، حيث كانوا يستيقظون في كل صباح ويتناولون طعام الإفطار في بيت العائلة في الموصل، وكانت أمينة تنتظر والدها عندما يعود من العمل، وكان يأخذها في الأسابيع التي كان يعود فيها مبكرا لتقود دراجتها ذات العجلات الثلاث.
وينقل التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، عن والدة أمينة، قولها: "الكثير من العراقيين يفضلون الأولاد، إلا أن محمود كان يفضل البنات"، وكان يرى إرادته في ابنته، لهذا السبب كانت وفاة والدها صعبة عليها.
وتذكر الصحيفة كيف أصيب والدها في آذار/ مارس عندما سقطت قنبلة هاون على البيت الواقع في حي التنك في الموصل، وأصابت شظية محمود واخترقت صدره، وعندما سقط على الأرض نادى على أمينة، التي تجمدت وهي ترى الدم ينزف منه، وظل يقول لها: "تعالي بابا"، وكأنه يريد عناقها، إلا أنها لم تتحرك من مكانها.
وتشير أنسور إلى أن محمود لم يمت حالا، حيث أخذه شقيقه لعيادة مؤقتة، وبقي ينزف فيها حتى وفاته، ونظرا للخوف من التنظيم فإن شقيقه دفنه حيث مات، وظلت العائلة مختبئة في البيت أياما قبل أن تغامر وتخرج إلى معسكر حمام العليل مشيا على الأقدام، لافتة إلى أن أمينة لم تتناول الكثير من الطعام، وفقدت النطق تماما، منذ وصولها إلى المعسكر الواقع جنوب الموصل.
وتقول مريم (34 عاما) للصحيفة: "كانت أمينة هي الوحيدة التي تتصرف بشكل مختلف عن بقية البنات منذ الوفاة، وكأنها كانت طفلة صغيرة ثم تغيرت بشكل كامل"، مشيرة إلى أنها انعزلت عن بقية العائلة، وكانت تصرخ وتبكي وتطلب أن تترك وحدها في كل صباح عند الإفطار، حيث تقول إن مريم "كانت تريد أن تكون وحيدة في الوقت الذي كانت تقضيه مع والدها، وكانت تغضب لو لم نتركها"، وتضيف أن أمينة تتصرف بهذه الطريقة حتى تتعامل مع صدمة وفاة والدها، وأخيرا أصبحت تعاني من البول على نفسها.
وتقول الكاتبة إنها زارت العائلة قبل أسبوع وقدمت للبنات الشوكولاتة، ومقارنة مع أمينة، التي جلست صامتة تنظر للهدية، قامت شقيقاتها بتناولها حالا وأخذن يلعبن ويضحكن في زاوية الخيمة، مشيرة إلى أن محاولات والدتها دفعها على الضحك لم تنجح، وتعلق مريم قائلة: "تبدو كأنها لا تعرف ما يجري، بل على العكس فهي تفهم كل شيء، وهي الآن صامتة لأننا نتحدث عن محمود".
ويلفت التقرير إلى أن أمينة بدأت قبل شهر تذهب إلى المركز النفسي الاجتماعي في المخيم، الذي أقامته منظمة "سيف ذا تشيلدرن/ أنقذوا الأطفال"، حيث تقول نور المكلفة بحالتها: "عندما رأيت أمينة أول مرة كانت تبكي طوال الوقت، ولم تكن تلعب أو تتحدث"، وتضيف نور أنه من الصعب على الأطفال الذين مرت بهم ظروف صعبة ألا يعبروا عن أنفسهم بطريقة كلامية أو جسدية، ولا عن مشاعرهم، وتقول: "شاهدنا الكثير من هؤلاء الأطفال هنا، لسوء الحظ".
وتنوه الصحيفة إلى أن أمينة بدأت بعد أسابيع تشعر بنوع من الأمان مع نور، وأخذت تلعب بالألعاب في المركز، مستدركة بأنها تحتاج لوقت لتتجاوز الصدمة، حيث تقول نور: "ما هو مهم ألا يتم الحديث مباشرة عن صدمة الفقد، فالطفلة هي من تتحدث عنها أولا، وكانت أمينة قريبة جدا من والدها، وعندما بدأت تتحدث ركزنا على الذكريات الجميلة معه".
وتفيد أنسور بأن 90% من الأطفال الذين تحدثت معهم المنظمة في حمام العليل قالوا إنهم فقدوا فردا من عائلتهم، أبا أو أما، شقيقا أو شقيقة أو قريبا أو قريبة، مشيرة إلى أنه يعيش في المخيم حوالي 50 ألف نازح، وهو واحد من ستة مخيمات أقيمت حول الموصل.
وينقل التقرير عن الخبيرة النفسية مارسيا بروفي، التي قضت 15 عاما تعالج الأطفال في مناطق الحرب، قولها إنها لم تكن جاهزة لما شاهدته في العراق، وبأنها كانت تستخدم في كل بلد عملت فيه حجر النرد، وهو مكعب على جوانبه صور للمشاعر الستة: الغضب والحزن والصدمة والقلق والملل والزعل، وكانت تطلب من الأطفال اختيار واحدة منها.
وبحسب الصحيفة، فإن الخبيرة قامت بفحص الأطفال في المناطق الخاضعة للمعارضة في
سوريا، التي تعيش تحت قصف وغارات مستمرة، وهو وضع ليس مختلفا عن العراق، وتقول: "عندما قمنا باللعبة مع الأطفال السوريين عبروا عن غضب كبير؛ لأن البعض منهم فقد والديه، وآخرون راقبوهم وهم يموتون، وهناك من أظهر حزنا عميقا"، وتضيف: "أما في العراق فلم تكن الأشياء ذاتها التي شاهدناها، فليس لديهم مشاعر على الإطلاق، وكشف الأطفال عن تصرفات آلية، يعني لا ضحك أو حزن، لا شيء، وتحدثوا عن الظلام والأشياء المخيفة التي مروا بها، وهذا لا يعني أنهم دون مشاعر، بل إنهم يقومون بكبحها".
وتتابع بروفي قائلة: "كان أمرا صعبا مشاهدة هذا الأمر"، مشيرة إلى أن الفرق بين البلدين هو في مستوى القمع الذي عاناه الأطفال، ففي الموصل لم يكن العنف نتاجا للمعركة التي جرت لطرد تنظيم الدولة، بل لسنوات الرعب التي عاشوها في ظله، حيث لم تشاهد أمينة مقتل والدها وأفرادا من عائلتها فقط، بل تشكلت سنواتها الأولى في ظل القوانين الوحشية التي مارسها الجهاديون، واضطر محمود لترك عمله بسبب مضايقات الجهاديين ومطالبهم بالانضمام للتنظيم، وخاف محمود وزوجته على بناتهما، لدرجة أنهما توقفا عن إرسالهن للمدرسة، وبقيت البنات لمدة عام في عزلة عن العالم خارج بيتهن، ورغم أنهن لم يشاهدن العنف، إلا أنه كان أمرا شائعا.
وتورد الكاتبة نقلا عن بروفي، قولها إنها عاينت حالات أطلقت عليها "صدمة ثانوية"، لافتة إلى أنه "في بعض الأحيان يعد الاستماع حول ما فعله تنظيم الدولة نوعا من الصدمة مثل المشاهدة؛ ذلك أن الأطفال لديهم خيال حي ويعمل عقلهم بشكل مستمر".
ويشير التقرير إلى أن عددا كبيرا من الأطفال الذين تحدثت معهم بروفي تحدثوا عن التهديدات بالعقاب من تنظيم الدولة، وقال بعضهم إنهم لا يزالون يشعرون بالخوف من قيام الجهاديين بملاحقتهم، حتى في المخيمات الآمنة، منوها إلى أن الذين تمت مقابلتهم وعاشوا في ظل التنظيم أظهروا كلهم ما تقول بروفي أنه علامات "الضغط المسمم".
وتبين الصحيفة أن هذا النوع من الضغوط النفسية هو الأخطر؛ لأن العقل في معركة مستمرة، أو في حالة رد دائمة، وإن استمر دون علاج فإنه يدمر الدماغ، حيث تقول بروفي إن الكثير من الأطفال بحاجة إلى علاج مكثف، الأمر الذي لم يكن الأطباء النفسيون قادرين على بدئه، وترى بروفي أنه من غير المناسب البدء في هذا العلاج في ظل وجودهم في المخيمات، وتقول: "نريد معرفة أين سيقيمون على الأقل لمدة عام؛ حتى لا تتعطل عملية العلاج، ومن غير الممكن البدء في مخيمات مؤقتة".
وتقول أنسور: "على أي حال، فإن أجواء مخيم حمام العليل ليست صالحة لإعادة التأهيل، فهو أرض مقفرة ومغبرة تمتد فيه الخيام، وفي يوم الزيارة لم يكن هناك أطفال يلعبون سوى من استظلوا بظل خزان المياه، حيث كانوا يلعبون بأغطية زجاجات المياه، ودون أي اتجاه أو عمل، فإن المخيم تحول إلى سجن فعلي لسكانه الذين لا يملك معظمهم المال والوسيلة للسفر، فقد فرّ أكثر من مليون شخص من الموصل خلال العملية التي استمرت تسعة أشهر، وهو رقم أعلى من الأرقام التي توقعتها الأمم المتحدة، وهي 750 ألف نازح، ورغم عودة الكثيرين منهم، إلا أن 320 ألفا منهم لا يزالون في المخيمات، وهناك 384 ألفا يعيشون مع أقاربهم، أو في المساجد، ويعتمدون على الإغاثة".
وتختم "ديلي تلغراف" تقريرها بالإشارة إلى أن "الأمم المتحدة دعت الدول المانحة للمشاركة في تمويل عملية إعمار أضرار الحرب، إلا أن أقل من نصف المبلغ المطلوب توفر حتى الآن، ما يعني عدم إعادة بناء المدارس، ولو لم يعاد فتح المدارس فإن الأطفال سيظلون خارج النظام التعليمي، حيث أصبح العراق، الذي كانت نسبة 90% من سكانه في المدارس، لديه 3.5 ملايين طفل دون مدارس".