لم يكن من المفاجئ للمتتبع للشأن التونسي أن تحظى الحكومة الندائية الرابعة –منذ الانتخابات البرلمانية والتشريعية لسنة 2014- بثقة أعضاء المجلس النيابي. كما لم يكن من المفاجئ أيضا أن يتحصل المحسوبون على المنظومة القديمة-المنظومة النوفمبرية للمخلوع بن علي-على أصوات أكبر من الأصوات التي تحصّل عليها المرشّحون المحسوبون على النهضة. فالتضامن "النيابي" هو صورة من التضامن "الحكومي" و"الحزبي"، بل هو صورة نموذجية للمنطق المتحكم فيما سُمّي "بالتوافق".
مبدئيا، يمكن أن نقول إنّ السجال العمومي حول "التوافق" يتم من منظورات ومواقع مختلفة، ويعبّر عن علاقات متناقضة بالنهضة أساسا وبالإسلام السياسي ككل. ولعل أهمّ نقد يوجه للتوافق هو ذاك الذي يرفضه بدعوى أنه تحالف اليمين الديني مع اليمين البرجوازي للانقلاب على استحقاقات الثورة. لكنّ هذا النقد الذي يتبنّاه اليسار الثقافي-في الجبهة الشعبية- ليس له مصداقية كبيرة بحكم صدوره عن طرف كان أوّل من "طبّع" مع النداء وشرعن وجوده ضمن "العائلة الديمقراطية"- بدعوى التصدي لتغوّل النهضة وتهديدها "للنمط المجتمعي التونسي"-، وكان كذلك من تكفّل في الانتخابات الرئاسية ب"قطع الطريق" على الرئيس المتخلي منصف المرزوقي خدمةَ لمرشّح المنظومة التجمعية السيد الباجي قائد السبسي. وبالطبع هناك مواقع أخرى تصدر منها مواقف الرفض للتوافق-حتى من داخل النهضة ونداء تونس -ولكنها ليست موضوعنا في هذا المقال.
منذ الأيام الأولى للثورة، كان كاتب هذا المقال يؤمن بأنّ بناء حقل سياسي يؤسس للجمهورية الثانية هو أمر محال بدون توافق مبدئي وصادق بين الإسلاميين والعلمانيين. وبصرف النظر عن مضامين هذا التوافق وعلاقاته الممكنة باستحقاقات الثورة، فإنه يجب أن يتنزل في مستوى الخيارات الاستراتيجية-التأسيسية وليس في مستوى الضرورات المرحلية-التكتيكية. ذلك أنّ إصرار النخب العلمانية على موقفها الرافض لتقنين الوجود الإسلامي داخل الحقل السياسي والاعتراف به شريكا في الوطن هو موقف لا يبدو عقلانيا ولا حتى براغماتيا، ولا يقل إصرار الإسلاميين على منطق البديل عن النخب العلمانية لا الشريك لها بؤسا وخطرا عن الموقف العلماني المذكور سابقا.
كان الانكسار البنيوي الذي حصل في الحقل السياسي التونسي يستوجب القيام بمراجعات متبادلة وتنازلات "مؤلمة" من لدن الإسلاميين والعلمانيين الراغبين في كسر منطق الحقل السياسي الاستبدادي-القائم أساسا على تقوية الاستبداد بدعوى توحّد "القوى الديمقراطية" لمواجهة الإسلاميين باعتبارهم الخطر الوجودي على المجتمع ذاته-. وقد كان من المتوقع بعد الثورة أن يحصل هذا التوافق بين القوى اليسارية الوطنية وبين الإسلاميين انطلاقا من الأرضية النضالية المشتركة التي وجدت تجسيدها الأمثل في وثيقة 18 أكتوبر 2005، تلك الوثيقة التي يمكن أن تكون "وثيقة تأسيسية" لعقل سياسي جديد. ولكنّ ذلك "الحلم" الثوري لم يتحقق وذلك لوجود عوائق فكرية وموضوعية سنعود إليها بشيء من التفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال.
مهما اختلفنا في تقييمنا لخيارات النهضة وأدائها قبل الثورة، فإننا لا يمكن أن نختلف في أنها-بعد الثورة- لم تجد ترحيبا كبيرا من "العائلة الديمقراطية"-حتى قبل تحالف هذه "العائلة" مع ورثة التجمع، أي قبل نضج البديل "الرسمي" للدولة العميقة وبناء واجهتها السياسية المتمثلة في نداء تونس-. فقد أدارت الكثير من "القوى الديمقراطية" صراعها مع النهضة باعتماد منطق نظام المخلوع ذاته: شيطنة النهضة وحرف الصراع إلى مدارات هووية ثقافوية تذيب الخلافات بين العلمانيين وتُوحدهم، لا ضد منظومة الفساد والتبعية والجهوية بل ضد "الإسلام السياسي" وضد الإرادة الشعبية التي قد تعكسها صنايق الاقتراع، أي ضد حركة النهضة التي "شُبّه لهم" أنها تهدد بصورة جدية مجمل امتيازاتهم المادية والرمزية المتراكمة في ظل النظام الاستبدادي(بلحظتيه الدستورية والتجمعية).
لو نحن استقرأنا الأنساق الحجاجية التي يبرر بها النهضويون سياسة التوافق (بما في ذلك تبرير تلك التشريعات التي قد تبدو معادية لقاعدتهم الانتخابية المشكلة أساسا من "المتدينين "والمحافظين" و"المهمشين" في الدواخل والقواحل وأحزمة الفقر المحيطة ب"مدن الفساد البرجوزاي" على حد تعبير الراحل ماو تسي تونغ)، فإننا نستطيع أن نعتمد بصورة مبدئية الخُطاطة التالية مع وعينا التام بأنها ليست محيطة بمجمل الحجج المدافعة عن التوافق:
- رغم أن الحركة لم تدع يوما الثورية، فإنّ منهجها الإصلاحي لم يجد شركاء حقيقيين يمكن الاعتماد عليهم ووجد معارضة شرسة من طرف "القوى الديمقراطية" المتحكمة في دواليب الدولة، تلك القوى التي مازال أغلبها يفكر بمنطق التناقض الرئيس(مع الإسلاميين) والتناقض الثانوي(مع التجمع وورثة منظومته الاستبدادية).
-انحسار الإسلام السياسي (الإخواني أساسا) أمام هجمات الملكيات الخليجية بقيادة التحالف السعودي-الإماراتي (وبرعاية الكيان الصهيوني)، وهو ما يجعل من الحكمة مهادنة النظام القديم والعمل إلى جواره لا ضده-على الأقل في السياقات الحرجة الحالية-.
-نحن لا نثق في المعارضة الحالية للنظام، خاصة الجبهة الشعبية. فالأطراف المكوّنة لها كانت هي المبادرة إلى التطبيع مع ورثة التجمع وشرعنة وجودهم داخل "العائلة الديمقراطية"، كما أن الجبهة لم تتخلّ لحظة عن منطق الإقصاء والاستئصال وعن مفردات الصراع الوجودي ضد الإسلاميين، وهو ما يجعل من اليسار الثقافي المستفيد الأعظم من أي اختلال جذري في التوازنات القائمة بين النهضة وممثلي المنظومة القديمة.
-تقتضي مصلحة البلاد وتوازنات القوة-بل قواعد اللعبة الديمقراطية ذاتها- الاعتراف بنداء تونس بصفته الخيار الأول للشعب التونسي(من جهة عدد مقاعده في البرلمان سنة 2014) والاعتراف بالسيد الباجي قائد السبسي شريكا حقيقيا. ولا يمكن للنهضة في إطار قواعد اللعبة الديمقراطية تغيير المشهد الحالي، لأن الجبهة الشعبية مثلا-ومعها أغلب مكونات ما يُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية"- هم رصيد احتياطي للمنظومة يمكنها تشغيله متى شاءت (وستدفع النهضة وقواعدها ثمن ذلك بالضرورة).
-ما يقدمه النداء أو رئيس الجمهورية من مبادرات تشريعية قد لا تكون شعبية وقد لا تمثل خيارات توافقية بالضرورة، ولكنها تنبثق من جهات رسمية لها صفة تمثيل جزء كبير من الشعب التونسي-فأغلب الممثلين للمعارضة لم يطعنوا في الانتخابات الأخيرة بل كانوا جزءا من حملة "الانتخاب المفيد" التي استفاد منها النداء ورئيسه-. ولا تستطيع النهضة أن تدفع بالأفق التوافقي نحو الانسداد لأنها غير قادرة-لا بنوابها ولا بقاعدتها الانتخابية-على تغيير مسار الأشياء (فللنداء بدائل وظيفية أخرى، وهي ستعينه على تحقيق ما يريد ولكنها ستدفع به -فضلا عن ذلك- إلى الدخول في مواجهة مفتوحة مع النهضة).
-النهضة اختارات أن تكون فاعلا في السلطة (وإن بمقدار ما تسمح به القوى الإقليمية والدولية) واختارت ألاّ تكون ضحية لهذه السلطة مرة أخرى. وهذا الخيار ليس وليد أي رضة نفسية (مثل متلازمة ستوكهولم) ولكنه نتيجة قراءة نقدية في الخيارات السابقة للحركة، تلك الخيارات التي لم يستفد منها إلا القوى "الانقلابوقراطية" التي دفعت بالنظام إلى اعتماد سياسات تجفيف المنابع إيديولوجيا، واعتماد المقاربة الاستئصالية أمنيا.
-للعمل السياسي إكراهات لا يمكن التصريح بها حتى للقواعد ومن باب أولى للشعب التونسي، وهي إكراهات تجعل من التوافق(على مقاس ورثة التجمع) ضرورة لا مهرب منها لأن بدائلها ستكون أكثر كلفة (أي ستكون لها تكلفة باهضة سواء بالنسبة للنهضويين أو للسلم الاجتماعية بصفة عامة).
-إن النهضة لم تعد تطرح نفسها بديلا عن النخب العلمانية بل شريكا لها. وقد اعتمدت الحركة على هذا المنطق في إدارة تجربة الحكم مع شريكيها في الترويكا. ولكنها شراكة هشة وازدادت هشاشة بالانقسامات التي حصلت داخل حزب المؤتمر. ولا يمكن للحركة-بالمنطق السياسي- أن تتحالف أو تتوافق مع أطراف تشتغل أساسا على افتكاك قاعدتها الانتخابية. وقد كانت الحركة ترجو أن تعيد الروح إلى مبادرة 18 جانفي 2005، لكنّ أغلب الأطراف الممضية عليها اعتمدت معها خطابا عدائيا حتى قبل انتخابات المجلس التأسيسي. ولذلك يحق للحركة أن تبحث عن شريك جديد وجدته في نداء تونس، مع وعيها بطبيعة هذه الشراكة الهشة والاضطرارية والمُكلفة حتى من الناحية الانتخابية. لكنها شراكة لا مهرب منها بحساب الربح والخسارة-سياسيا وواقعيا لا أخلاقيا أو معياريا-
إنها جملة من الحجج التي لا تكاد تغيب في أي سجال عمومي حول التوافق يكون النهضويون أو المتعاطفون معهم أحد أطرافه. وسنحاول في الجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله أن نتدبر هذه الحجج انطلاقا من قاعدة بسيطة: أخلاقيا وقانونيا وسياسيا، لا يمكن أن نحاسب أي فاعل فردي أو جماعي إلا عندما يكون في وضعية تسمح له بالاختيار بين ممكنين على الأقل. فهل كانت النهضة حقا في مدار الحتميات أم إنها قد كانت أمام ممكنات متعددة لا تأتي الأنساق الحجاجية إلا لتبرير أسوأ الخيارات التي اتخذت في التعاطي معها؟