كتاب عربي 21

هل علينا أن نعذرهم؟

1300x600
تسببت الأزمة الخليجية التي اندلعت بقطع السعودية والإمارات والبحرين علاقاتها مع قطر، في إصابة كثير من المثقفين والكتاب والعلماء والدعاة بصدمة كبيرة، أدَّت إلى ارتباك مواقفهم من الأزمة، في ظل الحملة الإعلامية الشرسة التي تستهدف قطر وكل من يقف إلى جانبها، بالإضافة إلى الضغوط التي مارستها وما زالت تمارسها تلك الدول الثلاث على مواطنيها لمنع حدوث أي تعاطف شعبي مع الدوحة. 

بعض هؤلاء علماء ودعاة مشاهير يتابع حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي ملايين. وكان المتوقع منهم أن تكون مواقفهم من الأزمة الأخيرة مختلفة، نظرا لمواقفهم السابقة من بعض القضايا وخطاباتهم وكتاباتهم التي كسبوا بها احترام الكثير في الشارع العربي والشارع الإسلامي، إلا أن معظمهم خيَّبوا ظن المتابعين فيهم، وأبدوا موقفا مغايرا لا يليق بشهرتهم.

وبعد كتابة تغريدات صادمة أو صدور تصريحات وفتاوى لا يمكن أن تصدر من عالم محترم، خرجت أصوات تطالب بأن يُعذَر هؤلاء العلماء والدعاة لكونهم يتعرضون لضغوط كبيرة، في مقابل أصوات أخرى تعبر عن خيبة أملها، وتقول إنهم سقطوا سقوطا مدويا فلا يُعذَرون فيما قالوا وفعلوا.

العلماء والدعاة تعرضوا عبر التاريخ لمحن عديدة وفتن مختلفة. وتروى قصصهم المليئة بالدروس والعبر، ومواقفهم المشرفة، وثباتهم على الحق رغم ما تعرضوا له من ضغوط وسجن وجلد وتعذيب. ومن أشهرها ما تعرض له الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في محنة القول بخلق القرآن. وفي سير أعلام النبلاء للذهبي (11/238-239)، يروى أن أبا جعفر الأنباري قال: "لما حمل أحمد إلى المأمون، أخبرت، فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر، تعنيت. فقلت: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير. ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك، فإنك تموت، لا بد من الموت، فاتق الله، ولا تجب. فجعل أحمد يبكي، ويقول: ما شاء الله. ثم قال: يا أبا جعفر أعِد علي فأعدت عليه، وهو يقول: ما شاء الله".  

وفي البداية والنهاية لابن كثير (10/359) أن أعرابيا يقال له جابر بن عامر سلم على الإمام أحمد لما كان في بلاد الرحبة وقال له: "يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدا"، قال أحمد: "وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه". 

المشايخ الذين نقلوا إلينا مثل هذه المواقف المشرفة في دروسهم وخطبهم وكتبهم، ليحثونا على الاقتداء بالسلف الصالح، نسوا في أول اختبار كل ما ذكروه عن الثبات على دين الله في أوقات الفتن والمحن، وفضل كلمة الحق عند سلطان جائر. لم يقتدوا بالإمام أحمد ولا بذاك الأعرابي الحر الشريف الذي حث الإمام على الثبات وعدم التراجع عن كلمة الحق مهما كانت الضغوط كبيرة وقاسية. 

لم نكن نعرف أن إحدى الصحف العربية الشهيرة بعدائها للإسلام والمسلمين تسمى "خضراء الدمن"، وأخرى يطلق عليها "صحيفة الوثن"، قبل أن نسمع منهم. وكانوا يحذروننا من "الخبثاء" الذين يحاربون دين الله، إلا أنهم في ساعة الجد خذلوا الواثقين بهم ومحسني الظن فيهم، وأيَّدوا ما تروِّجه "خضراء الدمن" و"صحيفة الوثن" ووسائل إعلام أخرى ظلت لسنين طويلة تحتقرهم وتسعى لتشويه سمعتهم، كما اصطفوا مع هؤلاء "الخبثاء" الذين كانوا يحذروننا منهم. وكانوا يكتبون أن القضية عقدية وأن الصراع بين الكفار والمسلمين، ثم حذفوا ما كتبوه، ولا أدري؛ هل العقيدة تغيرت أم أن هؤلاء الكفار دخلوا في دين الله؟

ولذلك، أنا شخصيا، لا أميل إلى القول بأننا يجب أن نعذرهم، بل أرى أن المطلوب هجرهم، وعدم الاستماع إليهم، وتركهم مع من يوالونهم، حتى لا يتم استغلالهم في تضليل الناس وخلط الأوراق وتبرير الظلم والفساد، وحتى يعرفوا هم أنفسهم أن خذلانهم للأمة في وقت حرج له ثمن في الدنيا قبل الآخرة. 

* كاتب تركي