يحلو لجماعة (يحيا الوطن) أن يستشهدوا بقصة شهيرة في السيرة النبوية الشريفة حين التفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة وقت هجرته قائلاً : والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت.
والروايات الأخرى لا تختلف كثيراً ولكن الرواية الرسمية للحديث النبوي الشريف تتعمد التركيز على أن مكة هي أحب أرض الله إلى سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر السبب.
فهم يكتفون فقط بهذا النص دون شرح للتلبيس على الناس وتعميق عقيدة الوطنية.
والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالبشر, فهو يحب لله ويكره لله ولا يبدو لي من هذه الرواية أنه لا يحب مكة إلا لأنها أحب أرض الله إلى الله.
وقد يمكنك الجدال في هذه النقطة, لكن قل لنا, لماذا لم ينتقل صلى الله عليه وسلم ليعيش في مكة بعد فتحها واستمر يعيش في المدينة المنورة حتى توفي بها صلى الله عليه وسلم ودُفن بها جسده الشريف؟
لم تكن فكرة (مصر للمصريين) والوطنية جديدة, بل كانت موجة فكرية سبقت الغاء الخلافة فعلياً وشجعها الاحتلال البريطاني الذي تبنى عدة شخصيات في هذا الإطار.
وكان الناس بعد الغاء الخلافة حديثي عهد بالدين, فكان لابد من محاولة إيجاد جذور لعقيدة الوطنية (وهي دين كامل مخالف للإسلام) في نصوص الدين نفسه, ثم محاولة تقديم النصوص الدينية بشكل مغاير لإثبات ترسيخ العقائد الجديدة التي بنى عليها المحتل العالم الجديد بعد الغاء الخلافة سنة 1923.
كانت دولة الخلافة التي ألغيت للتو حاضرة وما يزال دمها طازجاً حتى في عهد عبد الناصر, فعملت الماكينات الفكرية على ليّ نصوص الدين لترسيخ دولة العسكر (مثل حديث خير أجناد الأرض وهو حديث باطل كما قال علماء الحديث) وتثبيت عقيدة الدولة الجديدة (وكانت في عهد عبد الناصر خليطا من الوطنية والقومية).
والحديث عن مرتكزات عقيدة دولة العسكر يمكن أن يكون محلاً لدراسة مطولة ولكن ما يعنيني هنا هو أن هذه المجهودات التي بُذلت خلال عقود, هُدمت في أقل من سنة بالتنازل عن تيران وصنافير.
العقيدة التي قامت عليها دولة العسكر وهي عقيدة الوطن والأرض قبل الإنسان هُدمت.
بالأمس كتب أحد القراء على صفحتي معلقاً أن هناك حالة من الغضب مع حالة من السكون ولم يجد تفسيراً لها.
والحقيقة في ظني أن تفسير حالة السكون هذه هو أن الجميع يرون الأسس الفكرية التي عاشوا عليها تنهار بأيدي من يدافعون عنها من العسكر. وهي معطيات جديدة تحتاج وقتا لهضمها.
حالة من التساقط والتداعي في كل شيء يراها الناس وهم ذاهلون صامتون, بعضهم لا يستطيع حتى مواكبة إيقاع التهاوي السريع وكأن المنطقة كلها على شفا جرف يتهاوى بكل شيء.
حالة الذهول التي تسبق حالة الإفاقة.
بالإضافة إلى أن الجميع على اختلاف مستويات تعليمهم أدركوا الآن أن ذلك الجيش هو وكيل الاحتلال في مصر بعد أن كانوا يرونه كياناً هيولياً ضخماً مقدساً.
وعلى الجانب الآخر, يرى الجميع شيئاً ما خطأ في طرح (
جماعة يحيا الوطن). الناس ترى خطأ ما ولكنهم غير قادرين على شرحه.
فجماعة (يحيا الوطن) غاضبة بشدة وتنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور على بيع الجزيرتين (وهي خيانة بدون أدنى شك ولكن لأسباب أخرى غير تلك التي يعتمدونها) وفي الوقت نفسه تتعامل الجماعة (جماعة يحيا الوطن) بخمول عجيب مع مسائل تخص الإنسان, فهم لم ينتفضوا بنفس القدر بسبب مجزرة رابعة بل هلل بعضهم لها (بعد سنة أو سنتين من المجزرة أعلن أفراد من جماعة يحيا الوطن استنكارهم للمجزرة).
وربما ساعد هذا على خلق حالة من التشكك ساهمت في زيادة ضبابية المشهد أمام الناس.
والحقيقة أن إيديولوجية يحيا الوطن أصبحت غير قادرة فعلا على إدارة المشهد, كما أن تلك الإيديولوجية التي يقدمها البعض ويسمونها إسلامية, أصبحت هي الأخرى متناقضة وغير مرضية.
الإسلام النقي بدون شوائب هو العامل الوحيد الناقص في الصورة والذي لا يفكر أحد في تجربته ولكنه العامل الوحيد القادر على تحقيق التغيير.