انفجار التناقضات والتجاذبات بين أركان البيت الخليجي بعيد مؤتمرات ترامب في الرياض، التي هدفت لبناء تحالفات فوق إقليمية، لمحاربة التطرف والإرهاب ومواجهة إيران، وهذه المرة على شكل قطع العلاقات الدبلوماسية، وإغلاق الحدود والأجواء والتهديد بما هو أبعد، من قبل السعودية والإمارات ضد قطر، يشي بأننا بإزاء منزلق خطر تندفع إليه الأوضاع الخليجية، وأن المنطقة العربية التي تعيش تشظيا غير مسبوق في عموم الجغرافيات شرقا وغربا شمالا وجنوبا، بدأت النار تتسلل إلى الدائرة الأخيرة، الأكثر هدوءا فيها، والأبعد عن الحرائق والدمار.
المؤلم في المشهد أن تعبر السياسة السعودية التي حافظت على قدر عال من الاتزان والبعد عن المغامرة ،على مدى عقود، عن مستوى عال من التوتر، وبعدما كانت تشكل الرياض العمود الفقري في تثبيت الاستقرار الخليجي، وما هو ابعد ضمن الإقليم العربي، باتت السياسة الأخيرة تعبيرا عن رد فعل قاس، وانخراط في ملاسنات وأداءات لا تعكس سياق تعاطيها السياسي المألوف.
استطاعت العربية السعودية أن تتجاوز، ولو بكلف باهظة وبصورة مؤقتة، تداعيات قانون جاستا والتهديدات الأمريكية، عبر صفقة العمر مع ترامب، إلا أنها وعبر التأثر بسياق العمل الإماراتي ونزوعه للتصعيد، عملت على كسر الإنجاز بشرخ الوحدة الخليجية عبر بوابة التصعيد والقطيعة مع قطر. فيما عملت المؤسسات السيادية الأمريكية، من الجانب الآخر، على تحجيم ترامب وقصقصة أطرافه، لتصبح المراهنة عليه مراهنة على بطة عرجاء، قبل أن يثرثر هذا الأخير لمواطنيه في غباء، بعد الهجمة عليه انه عاد لهم بمئات المليارات والوظائف، هذا كل ما تذكره ترامب من رحلة المؤتمرات والرياض، لتتبخر الأحلام سريعا.. وينفتح المستقبل من جديد على هوة سحيقة يلفها الغموض. فيما الحليف الإماراتي يواجه اليوم امتحانا صعبا مع المؤسسات السيادية الأمريكية، ولا يعرف إلى أين تذهب الأمور بعد التحقيقات الأمريكية حول ما يربط روسيا والانتخابات الأمريكية وترامب والوسيط الإماراتي الذي ذهب بعيدا في نسج علاقات مع أشخاص ومؤسسات أمريكية عبر استخدام المال.. ما يثير حفيظة الأمريكان ويمس سيادتهم الوطنية.
المملكة العربية السعودية تعاني في اليمن وتدفع أكلافا باهظة في حرب مرشحة لمزيد من الاستمرار والاستنزاف، وسياستها في سوريا ولبنان تعيش انكفاءً غير مسبوق، لم يبق لها لبنان ولا حريري، وإيران وروسيا هما السيدان في سوريا، والعلاقة مع مصر مملة تفوح منها رائحة الابتزاز والاضطرار، فتور مع المغرب والأردن.. وداخل بيتها الخليجي برود مع عمان وهواجس وفتور مع الكويت. أما العراق على حدودها الشمالية فقصة إيرانية مبرحة، حين تمت الإطاحة بصدام ليأت المالكي ثم العبادي.
ثمة ارتباكات شديدة في المشهد الذي يتشكل عبر وحول مسار التصعيد مع قطر.. لا تخدم الرياض، بل ستسهم في المزيد من الأضرار بمصالحها ودورها، وكما يبدو أن العلة تبدأ من نقطة التقارب مع خط إماراتي مندفع مغامر، لا يناسب صورة وحجم العربية السعودية، وربما كلفها الكثير في وقت عصيب، وانتج تعقيدات شديدة في المشهد. الكل في غنى عنها.. فالتوتير مع قطر لن تقف تداعياته عند حدود الدوحة.. فأول مفاعيله كسر وحدة الاتحاد الخليجي، وفتح الباب واسعا أمام التمدد الإيراني في الفضاء الخليجي، وربما اضر بعلاقات السعودية المتطورة مع تركيا، والتي تعتبر اكثر من هامة للرياض في إنجاز توازن إقليمي في صراعها مع طهران.
المفارقة أن ما تعاقب عليه قطر من عناوين، لم تثبت على وجه اليقين، من انفتاح على إيران ودعم الحوثي والتحريض الإعلامي، وهو ما تمارسه الإمارات ومصر على نطاق واسع، وبأكثر مما تفعل قطر. بل الأشد مفارقة أن يجري قطع العلاقات مع الدوحة وتغلق الحدود والأجواء معها، بينما العلاقات والأجواء مع طهران وحلفائها في العراق ولبنان لا يجري عليها شيء.
العربية السعودية قبل غيرها معنية بفرملة هذه الاندفاعة في ضرب الوحدة الخليجية، ووقف توتير الأجواء بين بلدانها.. فالتوقيت صعب والمقاربة اصعب، والنتائج ستكون وخيمة على الجميع، اذا لم تسد لغة العقل وحل الخلافات داخل البيت لا عند الجيران.
الإمارات تواجه مصيرا صعبا، ومصر ليست قادرة على أن تقدم الكثير للخليج، وخسارة وحدة الخليج والتضحية بالعلاقة مع تركيا وقطر في هذا التوقيت، لن يستفيد منه إلا أعداء الخليج.. جبهة اليمن مشتعلة والبحرين لا تزال خاصرة رخوة في مرمى النيران، يمكن أن تشتعل جبهتها لأتفه الأسباب، وإيران تتحول إلى ملك متوج في المنطقة، في ظل فسيفساء عربية متشظية يتنازعها الدمار والخراب.. والمراهنة على ترامب مراهنة خاسرة بامتياز..
فرملة الاندفاعة والذهاب للحوار.. اجدى وانفع؛ لأن البديل هو الذهاب للمجهول، والمتربصون كثر..
السبيل الأردنية