ودار الزمن دورته، ليأتي يوم الهزيمة (5) يونيو، مع يوم الانتصار (10) رمضان، بعد أن أبى يوم العاشر من رمضان أن يتوحد مع يوم السادس من أكتوبر، في الموعد المقرر لذلك!
يقولون بعد ثلاث وثلاثين سنة يتعانق الشهر القمري مع الشهر الميلادي في ذات اليوم من جديد، وقد انتظرنا بعد ثلاث وثلاثين سنة من حرب أكتوبر 1973، أن يجتمع يوم السادس من هذا الشهر مع يوم العاشر من رمضان، لكن كانت المفاجأة أنهما لم يلتقيا، ولأن الأمر له علاقة بالعاطفة فلم يكن بمقدورنا أن نفكر في احتمال أن يوم الانتصار العربي على إسرائيل لم يكن يوم العاشر من رمضان؛ بعد أن استقر في وجداننا أن هذا اليوم (10) رمضان، يصادف يوم انتصار المسلمين في غزوة بدر، ولا أعرف من أين جئنا بهذا اليقين، والثابت أن غزوة بدر كانت يوم السابع عشر من شهر رمضان!
عدم التلاقي بعد مرور ثلاث وثلاثين سنة، يحمل طعناً في الطريقة التي على أساسها يجري تحديد أوائل الشهور العربية، فهل كان السادس من أكتوبر 1973، فعلاً في يوم العاشر من رمضان، وهل كان صيام القوم حينئذ صحيحاً أم أن الخطأ في تحديد البداية الصحيحة لشهر رمضان كان بعد ثلاثة وثلاثين عاماً؟ وهل قاعدة التلاقي بين أيام الشهر العربي مع الشهر الميلادي صحيحة فعلا؟!
ومهما يكن، فيشاء السميع العليم، أن يأتي الخامس من يونيو، وهو يوم هزيمة المشروع الناصري، القائم على القمع والاستبداد، في يوم العاشر من رمضان الذي شهد انتصار سنة 1973، بما رد الاعتبار إلينا بعد هزيمة ضاعت فيها الأرض، ومثلت طعنة نجلاء في قلب الأمة.
قال الشيخ الشعراوي إنه سجد لله شكراً عندما وقعت الهزيمة، وقد تعرض بسبب ذلك إلى هجوم ضار من "خيول الناصرية" التي لا تصهل في ساحات الوغى، وعلى أساس أن السجود يعد شماتة في الجيش المصري المهزوم، وبسبب الهجوم بدا الشيخ متراجعاً، حتى فاجأنا ذات يوم في ضريح جمال عبد الناصر يقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة، ويقول في تصريحات لوسائل الإعلام أنه حضوره إلى هنا كان بعد رؤية لعبد الناصر، رآه فيما يرى النائم يحمل "مثلثاً" و"سماعة طبيب"، في إشارة إلى أنه هو من طور الأزهر ليتخرج فيه الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، ومن المستقر عليه لدى شيوخ الأزهر ومن بينهم الشيخ الشعراوي، أن التطوير كان بنية التخريب!
لست ميالاً لتصديق الشيخ الشعراوي في أمر الرؤيا، ولست خاضعاً لابتزاز أن هزيمة الجيش المصري، تفرض علينا التجاوز من باب الوطنية، وهو الشعار الذي تم رفعه ليحول دون مناقشة أسباب الهزيمة، والوقوف على المتهم الحقيقي، هل كان الجندي المصري، أم قيادته السياسية والعسكرية!
واستدعاء الوطنية لعدم مناقشة أسباب الهزيمة، هو تصرف ماكر من سلطة مجرمة، وأحسب أن الجيل الذي عاصر ما جرى كان شديد الوطنية، وهو يعالج المرارة بالسخرية من الجيش، بشكل دفع الزعيم المهزوم إلى الطلب من المصريين التوقف عن إطلاق النكات على الجيش المصري، الذي كان يتقاسم الشعب مرارته وكان نصيبه أكبر باعتباره من خيب آمال الناس فيه ولم يكن على مستوى لحظة التحدي، حيث تكمن أزمته أنه كان خاضعا لقيادة تافهة، غير منضبطة عسكريا ووطنينا.
هذا الاستدعاء القسري لشعارات الوطنية، كان الهدف منه إفلات المهزوم دون حساب، فحقيقة الأمر أن الجيش المصري جرى تخريبه بواسطة شرذمة من صغار الضباط، هم من تولوا الحكم بعد حركتهم في سنة 1952، وجرى تصعيد ضابط صغير هو "عبد الحكيم عامر" إلى قمته، بعد أن منحه عبد الناصر أعلى رتبة عسكرية وهى "المشير"، فاستقال كبار الضباط، ومن لم يستقل تم حمله على الاستقالة، فلا يجوز أن يكون "في الخدمة "من هو أقدم من وزير الحربية!
كان الزعيم الملهم يدق طبول الحرب، باعتبارها مشاجرة في حارة، ويسأل قائد الجيش إن كان مستعداً، فيأتيه الرد على طريقة فتوات الحارة: "برقبتي ياريس"، وكان الوزير مشغولاً بمطاردة الفنانات، وهى المهنة التي أجادها الحكام الجدد، ومنهم من ذهب يطارد بنات الطبقة الارستقراطية التي جاء انقلاب الجيش ليقضي عليها، وكان جمال عبد الناصر يستمع إلى مثل هذه المغامرات باهتمام!
في مذكراته، روى الرئيس محمد نجيب كيف أن سيدة كانت تقيم في "جاردن سيتي" من علية القوم، كانت تشتكي له من أن أحد "الضباط الأحرار" كان في كل ليلة يأتي سكراناً ويحاول اقتحام منزلها، وعندما لا يتمكن فإنه يحدث جلبة في المنطقة، وعندما قام "نجيب" بتبكيته في اجتماع لمجلس قيادة الثورة، استمع لتبرير ماجن وساخر من الحاضرين وباعتبار أن ما يفعله من حقه، فهم قدموا حياتهم من أجل الشعب ووجب على الشعب أن يسري عنهم!
وتكتمل هذه القصة في مذكرات "موسى صبري: "50 عاماً في قطار الصحافة"، وهو يروي قصته مع صديقه الصدوق، وزير الإرشاد القومي، وأحد الضباط الأحرار، "صلاح سالم" عندما كان رئيساً لمجلس إدارة الجريدة التي أنشأتها الثورة وكان "صبري" أحد رؤساء تحريرها!
فمن الواضح أن هذه السيدة وجدت أن الرئيس لا يملك حمايتها من هذا الضابط العربيد فلجأت إلى "صلاح سالم"، وكانت سيدة فائقة الجمال، بحسب وصف "موسى صبري"، فأقام معها الضابط الهمام علاقة ممتدة، مقابل حمايتها من زميله، وكان يزورها في منزلها بسيارة الجيش، ويعود ليحكي لعبد الناصر كل شيء وما جرى بدقة، والذي يسمع له باهتمام بالغ، لكن نصحه بألا يذهب هناك بسيارة الجيش حتى لا يكون هذا دافعاً لأن يشعر الناس أنه استغلال للنفوذ، وكان يعطيه سيارته للقيام بمغامراته، فقد كان مهتماً بالشكل وليس معنياً بالموضوع!
عندما روى موسى صبري هذه الواقعة، لم يكن يهدف للتشنيع على العهد التليد، فهو كان مشغولاً بأمرين:
الأمر الأول: هو التأكيد على "صداقة العمر" بينه وبين "صلاح سالم"، ومدى حبه له، وحزنه لفقده، وهي علاقة كان يعلم بها شقيقه "جمال سالم" أحد الضباط الأحرار أيضاً، لدرجة أنه كان يعتبره من العائلة لهذا طلب منه نشر إعلان في الصحف يشكر فيه باسمه وباعتباره من أفراد العائلة كل من قام بواجب العزاء في فقيد العائلة، "صلاح سالم".
وكان موسى صبري في روايته لغراميات صديقه الضابط، إنما ليؤكد قوة علاقته به، لدرجة أنه كان يختصه بالحديث عن حياته الخاصة، ليس فقط في علاقته بهذه السيدة الارستقراطية الحسناء، ولكن أيضاً بما كان يدور بينه وبين عبد الناصر، عنها!
الأمر الثاني: ليثبت "موسى صبري" قوة العلاقة التي كانت تربط جمال عبد الناصر بصلاح سالم، وقد دخل البعض بينهما بالنميمة فأفسدوا هذه العلاقة، وأقيل بسبب هذا "سالم" من مناصبه، وكان يحزنه القطيعة بينه وبين عبد الناصر، لكن حمدنا الله أن عبد الناصر عندما علم أن صديقه القديم في مرض الموت فقد زاره ومكث معه ثلاث ساعات، في زيارة كان صلاح سالم سعيداً بها قبل وفاته مباشرة.
لقد استولى صغار الضباط على المناصب العليا في الجيش المصري، وغادره قياداته، لأن عبد الناصر كان يرى أنه لن يجد أمانه من أي انقلاب عسكري إلا في أن يكون الجيش في قبضة صديقه عبد الحكيم عامر، وقد انشغل "الضباط الأحرار" بمعالجة نزواتهم وبأن يرثوا الإقطاعيين ويلغوا الألقاب بما يسمح لهم بالترقي الطبقي، وفي المقابل فإن عبد الناصر وأجهزته الأمنية لم يكونوا مشغولين بالعدو ورصد حركاته والوقوف على أخباره ومدى جاهزيته، فقد كان شغلهم الشاغل هو اعتقال الخصوم السياسيين والتنكيل بهم في السجون، من الإخوان، والشيوعيين، وأيضا في السيطرة على القادة والزعماء العرب، من خلال صلاح نصر وأعوانه، فلم يعد سراً أن تم تأسيس فرقة لمهمة السيطرة، برئاسة الرائد صفوت الشريف، تسيطر على الفنانات بالتسجيل لهن في أوضاع جنسية، لتسخيرهن بعد ذلك لإقامة علاقات مع القادة العرب، وتسجيلها أيضاً، وهو ما ورد في تحقيقات رسمية قامت بها النيابة العامة، في عهد عبد الناصر نفسه فيما عرف بقضية فساد المخابرات، والتي كان يستهدف بها القضاء على مراكز القوى، التي نشأت برعايته، وليكسب ود الرأي العام بعد الهزيمة، وكانت هذه القضية بعد تخلصه من عبد الحكيم عامر بالقتل وقد صار عبئاً عليه وقد خطط عامر لانقلاب عسكري عليه، لرفض المشير أن يتحمل وحده مسؤولية هزيمة (5) يونيو!
إنها أجواء لا تنتج إلا هزيمة تليق بحكم عسكري موتور، انتهك أعراض الرجال في سجونه ومعتقلاته، وأعتبر أن الحروب كلام، فكان طبيعياً أن يُمنى بهذه الهزيمة، وأن يمكن الأعداء من أرض لم يكونوا بالغيها إلا في وجود عسكر ليس لهم في البناء أو في الحروب!
أيها العسكر.. أيها المهزومون في البدء وفي الانتهاء:
ابكوا وحدكم.. فلن نشارككم البكاء، مع أن الأوطان هى التي دفعت ثمن نزواتكم وقد تأكد لها أنكم وبال عليها!