تابعتُ منذ أيام قليلة خبرا نُشِرَ في بعض المواقع الإخبارية؛ عن كتاب اسمه "
الإخوان المسلمون وحركة
النهضة" لـ"أليسون بارغيتر"، المُحللة السياسية البريطانية المُتخصصة في سياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والباحثة الأولى المُساعدة في "معهد الخدمات المتحدة الملكي (RUSI)".
التقت "بارغيتر" قياديين من جماعة الإخوان المُسلمين مُركزة على الصف الأول من حركة النهضة
التونسية، وخلصت إلى نتيجة مفادها أن عواقب سقوط الإخوان المُسلمين في شمال إفريقيا خطيرة على دول المنطقة.
أما تفاصيل النتيجة التي توصلت إليها الباحثة البريطانية، فهي أنها رأت الربيع العربي آذن بحدوث تغيير جذري في الشرق الأوسط، بخاصة بعد تقدم الإخوان المسلمين في
مصر إلى مقعد السلطة الأول، عقب سابق عملها في الخفاء، والدور الرئيسي لهم على الساحة الديمقراطية الليبية الواعدة آنذاك، ومن ثم عبر حركة النهضة التي قفزت إلى مقاعد السلطة كرئيس للحكومة الائتلافية التونسية.
وعلى أرض الواقع، حددت "بارغيتر" أن الإدارة السياسية في مصر أطاحت بالإخوان، وكذلك أضعفت مثيلتها في ليبيا قوة نفس الحركة، وسط تحولات صعبة ومؤلمة بخاصة في الأولى، أما تونس فقد دبرت النهضة لنفسها الانسحاب من الموقف، وهو ما أدى إلى إخفاقها في تحقيق آمال شريحة كبيرة مجتعية مع إضرار النهضة بمصداقيتها لديهم..!
قفزت إلى الذهن عقب قراءة الكلمات السابقة؛ كلمات محاضرة ألقاها في إسطنبول أحد وزراء الأوقاف والشؤون الدينية التونسية السابقين، الدكتور "نور الدين الخادمي"؛ وذلك في الاجتماع الثالث لهيئة علماء فلسطين في الخارج في أوائل شباط/ فبراير الماضي، خلاصتها إن التدرج المرحلي الزمني لحركة النهضة ضمن "نهر
الثورة"، على حد قول المُحاضر، كان كالتالي: الإصلاح في مؤسسات الدولة والقائمين عليها، وبالتالي حماية حقوق ومكتسبات الجماهير، ولكن بعد حين اتضح أن الإصلاح المطلوب تلزمه حماية للبيئة المُحيطة به، خوفا من انقضاض الثورة المُضادة عليها وبالتالي تراجع المسار كله.
ويضيف الدكتور "الخادمي": "إننا لما ذهبنا نُهيئ البيئةفوجئنا بأن البيئة تحتاج إلى حراسة لا تهيئة؛ وهكذا ألزمنا الحس الثوري الانتقال من الإصلاح إلى التهيئة ثم الحراسة..فإن الشريعة الإسلامية تحتاج إلى إنزال على الواقع مع الإنجاز.
قالت "بارغيتر"، الباحثة المساعدة الأولى في "معهد الخدمات المتحدة الملكي (RUSI)"، إن حركة النهضة خيبت آمال شريحة كبيرة تونسية وأضرت بمصدقيتها لديهم، مع إن الباحثة أقرت بمأساوية التعامل مع الإخوان في مصر، وانهيار الحلم في ليبيا، وأن الإدارة السياسية في بلدان الربيع العربي بخاصة في مصر وتونس وليبيا أخذت جانبا مُعاديا لحراك الشعوب.. أي أنها أقرت بوجود إدارة سياسية متغلغة في بلد مثل مصر؛ وصل الإخوان فيه إلى كرسي الحكم الأول، وأن تلك الإدارة كانت أقوى من رئيس الجمهورية نفسه ونظامه؛ والحراك الديمقراطي نفسه في مصر وتونس وليبيا.. ولم تشر إلى الدور الغربي في ذلك، وإن أشارت إلى العواقب الخطيرة لغياب الإخوان عن المنطقة.
وفي المقابل، كانت رؤية الدكتور "الخادمي" واضحة؛ في أنهم في تونس لم يهتموا فقط بإنزال الشريعة الإسلامية، بل بحسن إنجاز ذلك على الواقع بما فيه اختيار الوقت المُناسب، وعدم الانسياق وراء المُخطط الإفشالي المقصود.
في الحديث عن تجربة النهضة التونسية تفاصيل وآراء، لكن مسؤوليها في النهاية آثروا حراسة مشروعهم، وعدم الاستمرار في منظومة السلطة خوفا على سياق التجربة كلها مما حدث ويحدث في مصر بوجه خاص، ومما يلمسونه في الأخيرة وفي ليبيا، وإن اختلف البعض ولم يوافق آخرون على السياق التونسي، إلا أننا لا يُمكن أن ننكر أن فيه إعمالا للفكر، ولو خالف المنطقية المُباشرة من التصدي للأنظمة الديكتاتورية وعدم العمل على إعادتها. ولكن في خضم المعارك الضارية، يفرض الواقع على العقلاء منهجية مُغايرة؛ حفاظا على النفس ودفعا للضرر الأكبر.
وإن المُتألم لواقع الإخوان المُسلمين في مصر تحديدا؛ ومن ثم تأثير هذا الواقع على حراك الأمة كلها، يُعمل العقل مرارا وتكرارا في عواقب اختيار الجماعة الدفع بمرشح رئاسي، ومن ثم وصول الدكتور "محمد مرسي" إلى الحكم، مع كامل الإدراك أن الجماعة حركتها الدوافع الطيبة الحسنة، وأن الحراك الثوري قد يطول إلى عشرات السنوات، كما في "الثورة الفرنسية"، ومسيرة الراحل "نيلسون مانديلا". لكن هناك اختلافات بين الحدثين، على سبيل المثال والواقع الثوري لإخوان مصر، ومنه أن الجماعة رسميا لم تكن مع الحراك الثوري الذي انطلق منذ 25 من يناير/كانون الأول 2011م، ولم ينته مثلما "صدقت الجماعة" لا في 11 من شباط/ فبراير 2012م ولا حتى اليوم، وكانت تعليمات مكتب الإرشاد ليوم انطلاق الثورة - نسأل الله لها التواصل والتمام - بعدم الدعوة لا للمشاركة أو لعدمها، ومَنْ يحضر من الإخوان عليه ألا يتصدر الصفوف..
ومن بعد حرصت الجماعة على ألا تبدو في صدارة المشهد بالكُلية، لئلا يؤثر ظهورها على هذا النحو على التبني الغربي للحراك الجماهيري، هذا عوضا عن المُفردات الثورية غير الموجودة في أدبيات الجماعة المتداولة في الأسر التربوية من الأساس، ونفي الجماعة نفسها الترشح للرئاسة في مصر بعد تسليمها بنجاح الثورة؛ ثم عدولها عن النفي وسط آلية غير واضحة لاجتماع مجلس شوراها العام لاتخاذ القرار لمرتين بالنفي ثم لثالثة بالإيجاب؛ دون وجود جديد يستدعي الدعوة إلى الاجتماع ثانية وثالثة، وبفارق صوتين فقط لصالح الترشح، من 108 صوتا!
ثم بعد تعيين "عبد الفتاح السيسي" وزيرا للدفاع من جانب الرئيس "محمد مرسي"، وانقلابه على الجماعة، عادت الأخيرة إلى أجواء كانون الثاني/ يناير 2011م في تموز/ يوليو 2013م، متناسية أن الغرب الذي أيد الأجواء الأولى إنما فعل لعدم تصدرها إياه، فكيف إن أعادت التجربة وهي في القلب منها؟!
إن قلوبا يعتصرها الألم لحال الجماعة، ونفوسا تشرئب إلى الغد لترجو الله أن يُوفق قيادات جماعة الإخوان في مصر إلى إعمال العقل، والترفق بما تبقى لديها من قدرات، وألا تستمر في خلط المسارين الإصلاحي بالثوري مع عدم امتلاكها شيئا من مقومات الأخير، وأن ترفق بطاقاتها وإمكاناتها؛ متفهمة أن الواقع الثوري يوم عليك.. وآخر معك، بشرط أن تُحسن الإعداد له.. وتدقق في تجارب موافقيك وكلمات الغربيين المُنصفة ولو لم تكن كاملة!