يمكن القول: إنه لا يرجى نهوض المسلمين إلا بالإصلاح الديني، وفاقا لما كان يقوله فخر
الأزهر الأستاذ الإمام محمد عبده، وشيخه وأستاذ التنوير والإصلاح فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني. ولا إصلاح إلا بالأزهر، وإذا لم يقم الأزهر الشريف بالإصلاح الديني أو تجديد
الفكر الإسلامي فمن يقوم بهذا الدور؟
والحق أقول: إنه لا يوجد في العالم الإسلامي شرقيه وغربه، شماله وجنوبه، أجدر من الأزهر بالكرامة في نفسه، وبالتكريم من أمته، والدعم من حكومته، ليقوم بنشر العلم والثقافة، وبسط الوسطية والاعتدال، ولكنه ظلم وضاع حقه، وتجرأ عليه حتى السفيه والمارق.
وقد تجرأ على الأزهر صنوف كثيرة من المنتسبين لبني الإنسان، ويمكن تصنيف هؤلاء المتطاولين لصنفين: الصنف الأول يمكن تسميتهم بأهل الجمود، والصنف الثاني ويمكن تسميتهم بأهل الجحود. فالأزهر على مر تاريخه قد وقع بين جهل الأبناء وكيد الأعداء، والعجيب أن أهل الجحود ينعتون الأزهر بالجمود، فوقع الأزهر بين إفراط الجامدين وتفريط الجاحدين، ولكنه وسط معتدل بين الطرفين المنحرفين عن الجادة.
كما يمكننا القول: إن أهل الجمود ليسوا بأخف ضررا من أهل الجحود، وإن كان أهل الجمود لا يشاركون أهل الجحود في الخبث وسوء النية وشر الطوية، وإنما يمتازون فيما يعملون بالجهل أحيانا والتعصب وضيق الأفق وقلة الحيلة وعدم قبول الآخر أحيانا كثيرة، في الوقت الذي يتعاون فيه أهل الجحود مع كل الآخر الذي يشاركهم في تحقيق أهدافهم الخبيثة في القضاء على الأزهر الشريف.
وإذا كان أهل الجمود هم الذين مهدوا لتأخر العالم الإسلامي بتخلفهم عن ركب الحضارة وتشييد المدنية، بزعم أن ذلك من ثمرات تعاليم الإسلام، فإن أهل الجحود هم الذين طمسوا معالم المدنية والتقدم والرقي في الإسلام بإخفاء شمس العالم الإسلامي التي سطعت في الغرب والشرق، وسرقة منجزات الإسلام، بل ونسبتها لغير المسلمين. فقد نسبوا المنهج التجريبي الذي سبق به المسلمون لغيرهم، كما طمسوا معالم الحضارة والنبوغ العلمي الطبيعي والرياضي والطبي لفلاسفة المسلمين. وبقي الأزهر الشريف صامدا ضد الجاهلين من أبناء الإسلام من الجامدين، وضد الجاحدين من المنتسبين للإسلام أو لغيره على السواء.
فما زالت المنجزات العلمية الحضارية الإسلامية التي قامت عليها الحضارة الغربية تدرس في الأزهر ضمن فلاسفة الإسلام في كلية أصول الدين، فترى أبا بكر الرازي بجوار جابر بن حيان مع الحسن بن الهيثم مع الخوارزمي مع البيروني... يشكلون مركبا يجمع في عناصره بين الطب والكيمياء والفيزياء والفلك والرياضيات.. في تآلف عجيب على الدنيا لا نظير له سوى عند هؤلاء الموسوعيين، ولولا الأزهر الشريف لضاع تراث هؤلاء، ولتأخرت البشرية في نهضتها عدة قرون. ومن هنا كانت الكليات العملية في الأزهر بجوار الكليات الشرعية.
وإذا كان أهل الجمود هم الذين مهدوا الطريق لأعداء الحضارة الإسلامية لمحاربة المدنية الإسلامية، بحجة أن التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه، وتنفيذ لقضاء الله وقدره، وأن الفقر الذي تعاني منه الأمة الإسلامية إنما هو ابتلاء من الله تعالى للمؤمنين في الدنيا لأن لهم الآخرة، وهذا كذب على الدين؛ لأن الإسلام جاء لإصلاح الدنيا بالدين، وأن الدنيا هي دار العمل للآخرة، فمن أضاع دنياه فقد أطاح بآخرته، فالأعمى في الدنيا أعمى في الآخرة، ومن أضاع زرعه في الدنيا فلا محصول له في الآخرة، وقد كشف الأزهر من خلال مناهجه التي تتجد كل فترة عور هذا الفكر، ومدى قربه من أديان أخرى ليس الإسلام بينها.
وإذا كان أهل الجمود كما سبق، فإن أهل الجحود أسوأ منهم، فقد وضعت مقاليد الأمة في يدهم، فكانت النتيجة أن أقصوا أهل الجمود وأهل الاعتدال على السواء، وتحكموا في مفاصل الأزهر العتيق، وسلمت لهم الأمة عنقها، فماذا كانت النتيجة سوى التخلف الحضاري ومحاربة أهل الاعتدال، وترك الساحة لمن يختارون من أهل الجمود، وأقصى ما سعوا في تحقيقه هو الانبطاح أمام السيد الغربي، وزرع بذور اليأس في قلوب المسلمين، وتقليد الرأسماليين تارة والشيوعيين تارة أخرى، كما قاموا بقطع الطريق أمام الطامحين لزرع الأمل في قلوب المسلمين، والسعي الدؤوب لامتلاك سبل الحضارة، والعمل على تشييد حضارة العلم والإيمان، وإقامة دولة العدل والإحسان، وهذا ما يسعى الأزهر في تحقيقه؛ عن طريق معاهده الأزهرية التي جمعت بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بين الشريعة والفلسفة، بين الرياضيات والرياضة الروحية، وهذه المعاهد بدورها تقوم بتأهيل الطالب الأزهري ليختار بعد ذلك وفقا لإمكانياته أي الجامعات يريد، فإذا رغب في استكمال دراسته الشرعية فأمامه الكليات العربية والشرعية، وإذا رغب في استكمال دراسته الطبيعية فأمامه الكليات العملية من طب وهندسة وصيدلة وعلوم وزراعة.. الخ، مع الحفاظ على طابعه الأزهري بقدر من القرآن الكريم وقدر من العلوم الشرعية، على منوال جهابذة الإسلام الذين جمعوا بين علوم الدين والدنيا.
وقد علا صوت الجاحدين على الأزهر هذه الأيام، حتى فقد صوت الجامدين بجوارهم، وفي هذه المرة ينعتون الأزهر بالجمود الذي يجب القضاء عليه، والرجعية التي يجب وأدها، وكأنهم قد غاب عنهم أن الجامد في الفكر هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعاتها بحجة أنها علوم الفرنجة أو علوم "الغرب الكافر" التي حرم الإسلام على أتباعه ثمرات هذه العلوم، وفضل لهم الحياة في الفقر على المعيشة في نعيم منجزات حضارة الغرب، فهل قال الأزهر بهذه الترهات؟ وهل حرم الأزهر علوم العصر؟ وهل منع المسلمين من الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي؟؟ أم أنه أنشأ الكليات العلمية بجوار الشرعية؟ كما بعث البعثات للخارج بجانب البعثات الداخلية؟ وما زال الأزهر يجدد فكره ومناهجه، فماذا يفعل الآخرون؟؟ قليل من الإنصاف يا سادة يرحمكم الله تعالى.