(مفتتح النشيد)
تستهويني البدايات، وتغريني بتلوين واقعنا المهزوم، بلغة النصر والأمل، لذلك لن أسأل اليوم مع محمود درويش: كم مرة ستكون رحلتنا البداية؟، بل أسأل عن بدايات أخرى تأخذنا إلى دروب سارحة، وتفضي بنا إلى نهايات مفرحة. فأنا اليوم أمام "عتبة جديدة".. "نافذة أوسع".. "قارئ أبعد"، لذلك لن أستسهل طرح البضاعة الموجودة، ولن أكتفي برؤية محدودة للمشهد البائس الذي يحاصرنا في طرق مسدودة، وقضايا معادة، وتحرشات مصطنعة بين السجين وزميله، يتسلى بها السجان ويضحك مزهوا بخدعته الحقيرة، لقد سئمت الدوران في المكان وفي الزمان.. بخطىً واقفة، كرهت الكلام بلغة راجفة، وكرهت الحرب بين الرفاق بحثاً عن انتصارات زائفة.. أحن إلى البسيط من الكلام، في زمن مضرج بالسلام، وأشتاق إلى لغة عربية منتصرة بلا سباب ولا خصام، ولا عويل على حطام، أتوق إلى جدال وحوار في أمانٍ ووئام.. فهل تكون البداية هذ المرة.. مفتتح سعيد للنشيد.. نعتزل فيها حرب الرمال مع الرمال، ونرابط معاً في محبةٍ للدفاع عن القلاع؟!
(تعليق)
بينما كنت أتأهب لكتابة مقالٍ تبشيري عن "الأمل العربي الممكن"، دهمتني "نشرة أخبار" عربية.. واقعية، قاختطفت من قلمي وجبة التفاؤل التي أعددتها ليوم الافتتاح، وامتلأت أذني برواية درويش لمأساة النرجس.. وملهاة الفضة، لكنني عارضته مصمما على افتتاحٍ متفائلٍ للنشيد، أعدت فيه ترتيب كلماته للنجاة من "النفق الطويل"، لكن كالخنجر فوق الرقبة، ظلت صورة فلسطين معلقة في ذاكرتي، وانطلقت هواجس "صفة القرن" تحوم كغربان سود في رأسي، وارتفعت صرخات المخاوف المقبضة تعصر قلبي.. وأنا أتابع فصول الصراع المخجلة بين عباس وحماس، وأطالع بعيون مرتابة تصريحات خالد مشعل، وسطور وثيقة حماس التي تعيد التأكيد على بديهيات فلسطينية، وكأنها تودعها، أو تعدد محاسن قضية على فراش الاحتضار. فهل أستطيع بعد كل هذا الخوف والخذلان أن أكتب بالأمل.. أو عن الأمل؟
(محاولة)
يعجبني حديث "ميشيل فوكو" عن "التفاؤل بالإرادة"، فمعطيات الواقع العربي لا تتيح لأي عاقل فرصة مخلصة للتبشير بالمستقبل، فنحن في قاع بئر الهزيمة، وهذا أمر يمكن أن نتجاوزه من الناحية النظرية.. بأن نسميه مثلاً "نكسة" ثم نجتهد من أجل الصعود، فالعرب في قاع البئر ينفقون المال والدم والجهود في الاقتتال، لكنهم وا عرباه لا يقتتلون بحثا عن سبيل للنجاة، بل يقتتلون لمزيد من الحفر وتمكين الحياة في قاع البئر..! الملهاة والمأساة معا أن هذه الحماقات لم تعد مثيرة للدهشة وللاستنكار، بلا صارت تقليدا عربياً يدعمه تاريخٌ طويلٌ من التناحر و"هدر الإمكانية"، والتعبير الأخير لم يعد سمكة مجهولة في بحر البلاغة اللغوية، منذ اصطاده الدكتور نادر فرجاني خلال الثمانينيات، وقدمه في دراسة اقتصادية تاريخية رصينة، أكدت بالأرقام والرسوم البيانية توفر عوامل النهضة العربية، ولخصت المشكلة في هدر هذه العوامل، بما يعني أن عدم تحقق غايات الشعب العربي لا يرجع إلى نقص في الموارد والكفاءات، بل إلى حماقة ذاتية تهدر إمكانية الرفاهية والعدل الاجتماعي والاستقلال والاستقرار والأمن، وبرغم الهدر المتواصل والنزيف المستمر للإمكانيات العربية، وبرغم التناحر الداخلي والاقتتال السرطاني، وبرغم التبعية المطلقة والعماء الاستراتيجي، إلا أنني من الرافضين (نفسيا) لفكرة التسليم بأن هذا الحال المخزي هو النتيجة النهائية التي نستحقها، وطبعا لا يوجد في الواقع أي مؤشر عقلاني يمكن الاستناد إليه للحديث عن "أمل عربي" في المستقبل، إلا تنظيرة فوكو عن "التفاؤل بالإرادة".. وهي تنظيرة ترتبط بمنجز فلسفي معاصر تقاطع معه مشروع "إيريك فروم" في الدفاع عن الكينونة في مواجهة الملكية، وفي انحيازه للفقراء والضعفاء فيما أسماه "قوة اليأس"، لكن استحضار الأمل برغم الهزيمة الفادحة في الواقع، لم يبدأ مع فروم ولا فوكو، فقد تحدث عنه هوبز، قبل حديثه عن "العقد الاجتماعي"، ورسمه المخرج "ستانلي كوبريك" في مشهد عبقري يجمع بين المأساة والأمل في لحظة واحدة عند نهاية فيلمه العظيم "سبارتاكوس" حيث ارتضى العبد الثائر بعد مقاومة عنيدة، أن يموت على صليبه مرتاحا، لما اطمئن على "إمكانية" انتصار الحرية، فقد لمح زوجته تهرب بطفله الرضيع بعد أن تمكنت من رشوة الحارس الروماني، وهكذا أيقن أن روما إلى زوال، وأن ثورته من أجل الحرية ستحقق أهدافها، برغم الهزائم الأولى، وبرغم واقعه الدامي، وهو ما نتداوله كعرب في كثير من الأمثال والأقوال المأثورة، لعل أشهرها في تاريخ نضالنا الحديث ضد الاستعمار، قولة مصطفى كامل: "لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة".
(محددات)
الأمل الذي أنشده ليس ميتافيزيقا هلامية لخداع الذات، وليس فصاما يبتعد بنا عن الواقع بكل ما فيه من آلام، ولا عن المستقبل بكل ما يحمله من آمال، كما أنه ليس بارانويا ماضوية تتغنى بأمجاد الأجداد، ولا مفاخرة كاذبة لخداع الأولاد بمستقبل لا نملكه، ووعود لا ننوي ولا نستطيع تحقيقها، لكنه إيمان بقدرة (مؤجلة) على تخطي حالة الضعف والتمزق، وعبور مرحلة التبعية والهزيمة الحضارية، اعتمادا على معطيات نملكها، وعلينا أن نتعلم كيف نحسن استخدامها، وجهادا من أجل أهداف مشتركة تجمعنا، وعلينا أن نتعلم كيف نتعاون ونتكامل في تحقيقها. والأهم من هذا كله أن التفكير بالأمل سيعلمنا لغة المحبة التي تحول الاختلاف إلى ثراء، وعظمة التسامح التي تبطل ماكينات صاناعة العداوة والكراهية بين أحفاد قابيل.. الأمل غذاء الساعين إلى الغد المنشود، روح الجماعة، نبراس الضمير الذي ينير لنا الطريق نحو التحرر والتطور والتقدم، وأدعو الله أن يوفقني لكلمة سواء، تجمع ولا تُشتت، تُعز ولا تُذل، تهدي ولا تضل، تسقي حدائق الحب ولا تشعل حرائق الكراهية.
(أمل)
"ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين".