حينما اختارت حركات إسلامية عديدة
المشاركة والانخراط في ميادين العمل السياسي المختلفة، فإنما انطلقت في مسيرتها تلك من فهمها الشمولي للإسلام، وسعيا منها في الوقت نفسه لتطبيق رؤيتها الإصلاحية في إدارة شؤون العمل العام بمختلف مناحيه، بحسب باحثين في شؤون الحركات الإسلامية.
لكن ما آلت إليه نتائج تلك المشاركة، من إجهاض نجاح بعض تلك الحركات، والانقضاض عليها تضييقا وقمعا وملاحقة، كما وقع لجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وممارسة الضغط الشديد على بعض تشكيلاتها، ما أجبرها على التنازل الطوعي عن مكتسباتها، كحالة حركة النهضة التونسية، أعاد من جديد إثارة أسئلة جدوى المشاركة السياسية برمتها، وفتح باب الحوار للبحث عن بدائل وخيارات ربما تكون أكثر نفعا وأعمق أثرا.
ووفقا لأستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بجامعة حمد بن خليفة في قطر، محمد المختار الشنقيطي، فإن "العمل السياسي الإصلاحي ليس مواعظ أو تنظيرا تجريديا، بل هو ممارسة عملية تسعى إلى توسيع مساحة الخير، المحكومة بمنطق تحقيق الممكن، وزيادة مساحة الخير، وبناء الأرضيات المشتركة".
وتابع في حديثه لـ"
عربي21": "وحين يخوض الإسلاميون العمل السياسي، فعليهم أن يخوضوه بهذه الروح، فلا مجال لانتظار اتساع الأطر أو توفر الفرص؛ فالمشروع الإصلاحي ذاته كلما نما توسعت الأطر المقيدة له بشكل طبيعي، أو انكسرت تلك الأطر إذا لم تستجب للديناميكية الاجتماعية".
ووصف الشنقيطي "الحالة الأخيرة بالحالة الثورية التي تصل إليها القوى الإصلاحية حين تكون الأنظمة الاستبدادية منغلقة تماما وغبية تماما".
وجوابا عن سؤال: هل بات من واجب الإسلاميين بعد تحقيقهم مكاسب سياسية مشهودة التنازل الطوعي عنها حتى لا يستفزوا قوى الدولة العميقة، قال الشنقيطي: "ثمة نوعان من التنازل، أولها تنازل عن مكاسب حزبية لصالح مشروع وطني يصلح الإطار العام للعمل السياسي، وهذا موقف أخلاقي مطلوب ومرغوب في لحظات الانتقال، ومثاله ما فعلته حركة النهضة في تونس، التي تحررت من الأنانية السياسية التي هي داء القوى السياسية العربية، وتنازلت عن مكاسبها الحزبية لمصلحة مكاسب الثورة التونسية الديمقراطية التونسية، والثاني تراجع وتخاذل".
أما النوع الثاني، بحسب الشنقيطي، يكون "حين تتخلى القوى الإسلامية عن مشروعها التحريري تماما، كما حدث لبعض الإسلاميين في الجزائر الذين تحولوا إلى أداة بيد الحكم العسكري الجزائري، وأصبحوا وسيلة من وسائل المحافظة على الوضع القائم وإطالة عمر الاستبداد".
ولفت الأكاديمي الموريتاني إلى أنه "يؤيد مرونة الحركات الإسلامية وتنازلها في التعاطي مع القوى السياسية الديمقراطية مهما كان الخلاف الأيدلوجي معها؛ لأن ذلك يخدم المشروع التحريري الكبير في نهاية المطاف، أما التنازل للأنظمة
القمعية فهو تخل عن غايات الحركة الإسلامية التحريرية ورسالتها الأخلاقية".
من جهته، قال الباحث السياسي المصري، محمد حامد، إنه من "أنصار فصل الدعوي عن السياسي"، وإن على "تيارات الإسلام السياسي أن تكون أكثر مرونة في العمل السياسي؛ للوصول إلى أهدافه وهي الحكم"، معللا ذلك بأن "السياسة تتطلب الكثير من التنازلات".
وجوابا عن سؤال "
عربي21": ما هي المرونة المطلوبة؟ وما هي التنازلات التي يطالب الإسلاميون بها؟ قال حامد: "يتعين على الحركات الإسلامية الدفاع عن نفسها بأنها تؤمن بالديمقراطية إيمانا حقيقيا، وأنها تؤمن بتداول السلطة، وبإمكانها التنازل عنها للصالح العام"، في إشارة منه لاستحسان ما فعلته حركة النهضة التونسية.
وأضاف: "على الحركات الإسلامية الفصل بين الدعوي والسياسي، والتوجه لإظهار إسلاميتها عبر الدعوة الإسلامية الصحيحة، والترغيب في الدين، بعيدا عن التنفير والغلظة وتعنيف المخالف، من غير أن توظف ذلك لأغراض سياسية كالوصول إلى كرسي الحكم".
وبحسب الباحث المصري حامد، فإن على الحركات الإسلامية السياسية إذا أرادت ممارسة العمل السياسي أن تقوم بذلك عبر الأحزاب السياسية المستقلة تماما عن العمل الدعوي، والملتزمة بالقانون.
وحول قراءته لتجارب الحركات الإسلامية السياسية، وتقييمه لمسيرتها، أشار حامد إلى أن "المسار الأفضل لتلك الحركات بعد تجاربها السابقة هو الاقتداء بنماذج ناجحة، وليس بنماذج إسلاميي الصومال والسودان وأفغانستان"، داعيا إلى أن تكون تجارب تركيا وماليزيا وإندونيسيا حاضرة في أذهان الإسلاميين الذين يمارسون العمل السياسي.
من الملاحظ أن إثارة أسئلة جدوى مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي كانت بعد إجهاض تجربة إخوان مصر، وما آلت إليه أوضاع الجماعة الدعوية من محاصرة وملاحقة وقمع شديد، فهل سيفضي ذلك إلى إعادة النظر في طبيعة العمل الدعوي والسياسي، وإعادة رسم مساراتهما من جديد؟
كما ارتفعت وتيرة أسئلة جدوى مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي، على وقع تجربة حركة النهضة التونسية، التي قامت بالتنازل عن مكتسباتها السياسية طوعا؛ حتى لا تستفز قوى الثورة المضادة، وتقديما منها لمصلحة الوطن والثورة، بحسب مراقبين وناشطين.
في هذا السياق، رأى الباحث السياسي، ومدير قناة الحوار في لندن، عزام التميمي، أن "مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي وسيلة لتحقيق الهدف، ألا وهو الإصلاح والتغيير نحو الأفضل، ولا بديل عن المشاركة حين تكون متاحة سوى الانعزال".
واعتبر التميمي "الانعزال حين تكون المشاركة متاحة بمثابة الانتحار، وهو ما لا يجوز عقلا وشرعا".
وفي رده على سؤال "
عربي21" "ما جدوى المشاركة إذا كانت ستفضي إلى التنازل عن مكاسبها طوعا خوفا من ضربات قوى الثورة المضادة"؟ قال التميمي: "لا أرى أن المطروح هو التساؤل عن جدوى المشاركة؛ لأنني لا أرى بديلا عنها حينما تكون متاحة، ولكن المطروح هو ما الذي نحتاج التحضير له استعدادا للجولة القادمة".
وأكدّ التميمي أن الحركات لم تتنازل عن مكاسبها إلا من باب الاضطرار، ولو أمكنها المحافظة عليها وأن تضيف إليها لما ادخرت جهدا".
ولفت التميمي إلى أن "الثورات التاريخية لا تأتي في جولة واحدة، وإنما هي سلسلة من الجولات"، ذاكرا "أننا بدأنا الجولة الأولى قبل ستة أعوام، التي ما لبثت أن أحبطت وأجهضت، ولا مفر من جولة ثانية، وربما ثالثة، إلى أن يصبح ميزان القوة محليا وإقليميا ودوليا لصالح التغيير المنشود".