كلّما ارتكب نظام الأسد مجزرة يكون لها تداعيات على المستوى الدولي وتنذر بحصول مخاطر على النظام، يتحول مؤيدوه إلى فلاسفة وعقلانيين ويلبسون ثوب الحكمة الفضاض.
أسئلة كثيرة طرحها هؤلاء في اليومين الفائتين على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، الهدف منها التشويش على الرأي العام وخلق حالة من البلبلة والتشكيك وتجهيل الفاعل في مرحلة أولى، ثم تبرئة نظام الأسد واتهام الضحايا بقتل أنفسهم.
وليظهروا على شاكلة الطرف الموضوعي والعقلاني يبدأون بمقدمات تدين القتل واستخدام الكيماوي بغض النظر عن الجهة التي قامت به، كما يضيفون أنهم لا يبرؤون أحدا، وبعد أن يطمئنّوا بأنهم أخذوا القارئ (الضحية) للجهة التي يريدون يبدأون بنهش عقله ومهاجمة مداركه بوقاحة ووحشية.
لماذا يتركب نظام الأسد مثل هذه الفعلة غداة استدارة مواقف الدول الكبرى منه؟ كما أن النظام يحقق إنجازات ميدانية على جبهات القتال دون الحاجة للأسلحة الكيماوية؟ ثم إن النظام السوري العاقل والمتزن لا يمكن أن يطلق النار على قدميه وهو في وضع جيد.
البعض ذهب في اكتشافاته المنطقية إلى أبعد من ذلك، مثل ملاحظة أن سراويل الأطفال الداخلية كانت نظيفة، والبعض اعتبر في الأمر تمثيلية قدمها أطفال ونجحوا بتأدية أدوارهم، والبعض الآخر تساءل لماذا لم نر نساء عاريات مثل الأطفال؟
لكن كل تلك القراءات التي طالبت بالمنطق في رؤية وتفسير مجزرة الكيماوي، ورغم شكلانية المنطق في طرحها إلا أنها بدت قراءات غرضية وسطحية بدرجة كبيرة، لماذا؟
اولا: لأنها تنزع الحادثة عن سياق عريض، فهل كان منطقياً قتل مئات آلاف السوريين وتهجير الملايين على أسس طائفية، وإخفاء مئات الآلاف وتغييبهم، وقتل عشرات آلاف السجناء؟ ألم يقل أنصار الطاغية" الأسد أو نحرق البلد"؟ هل كان تدمير مدن سورية عملا منطقيا؟ وأين المنطق في تصرفات نظام أباد البشر والحجر حتى تطالب أبواقه باستعمال المنطق لقراءة جريمة واحدة في سياق متدفق من جرائم الحرب؟
ثانيا: إن اعتبار أن الأسد في وضع جيد وغير مضطر للقيام بمثل هذا العمل ليس أكثر من توصيف لحالة افتراضية أكثر منها واقعية، حالة يمكن استخدامها للترويج الإعلامي والدبلوماسي لإثبات أن الأسد طرف أساسي ولا يمكن تجاوزه في أي تسوية، أما الحقيقة فهي أن المعطيات سائلة والمواقع متحركة وتتغير كل يوم وقابلة للتغير في توازنات القوى الحاصلة، كما أن الأسد يقع تحت ضغوطات كبيرة وعامل الوقت لم يعد مساعدا له ويحاول استباق مفاوضات جنيف بتحقيق أكبر قدر من المكاسب لأن الروس أوصلوا له ما مفاده أن التسوية ستجري على تثبيت كل طرف في المناطق التي يسيطر عليها.
ثالثا: ثم إنه لمجرد اعتقاد نظام الأسد أنه في وضع جيد فهو يحتاج إلى تزخيم هذا الوضع إلى أقصى درجة ويضغط على الخصم بكل الوسائل لكي يزيد من حجم مكاسبه، ثم القول إن النظام السوري مرتاح مسألة نسبية إلى حد بعيد ذلك أنه لا يزال مستنزفا بدرجة كبيرة في درعا وحماة ودمشق وحمص، ويوميا يسقط عشرات القتلى من مجرميه في ظل وجود مصاعب في تأمين جنود إضافيين للمعارك، وهو موقف صعب تجاه بيئاته التي تستعجل الحسم.
رابعا: توهم الأسد، أو اعتقد، أنه أمام فرصة سانحة تتمثل بإعلان أمريكا أنها غير معنية بإسقاطه، ولا شك أنه أجرى تقييماً للتطورات والمتغيرات ورأى أنه من الخطأ عدم إستغلاله للفرصة التي تنطوي عليها هذه التغييرات، وهو أراد تحت سقف هذه الفرصة رفع وتيرة إجرامه لإضعاف عزيمة الثوار ودفع بيئاتهم للاستسلام والقول لهم إنه لا أحد في هذا العالم سينجيهم منه.
خامسا: إضافة لذلك فالأسد خاضع بدرجة كبيرة لطرفين خارجيين" روسيا وإيران" لديهما تقديراتهما الخاصة ورسائلهما اللتان يراد إيصالها للقوى الأخرى وهما على استعداد لرفع سقف المغامرة في سورية لاختيار التوجهات الدولية أو لإثبات قوتهما، فروسيا تعتقد أن لديها هامش مناورة تستطيع إلغاء المخاطر المحتملة من ردة فعل أمريكية، وإيران تعتقد أن ترامب لن يغامر بضرب الأسد تحسبا لموقف روسيا.
لم ينتبه دعاة المنطق إلى حقيقة أن استخدام النظام السوري للكيماوي لم يتوقف لحظة منذ تراجع أوباما عن تهديداته، وليست مجزرة خان شيخون مقطوعة الصلة عن هذا السياق، فقد استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيماوية حوالي 140 مرّة، وفي شهر مارس الماضي استخدم الكيماوي مرات عديدة، كان آخرها في مدينة اللطامنة بريف حماة، بل إن الكيماوي شكّل العنصر الحاسم في تقدم قوات الأسد في حلب، وقد كشفت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية أن نظام الأسد استخدم بشكل منظم وممنهج الأسلحة الكيماوية على طول فترة حربه ضد الشعب السوري.