في مصر، وبلدان الربيع العربي المغدور، وتلك التي تم تخويف شعوبها من الثورات، تتعالى صرخات الجياع منذرة بثورات قادمة قد تطرق أبواب العرب في وقت قريب، فلا الجوعى عادوا قادرين على إخفاء وجع بطونهم، ولا أنظمة الفساد والقهر بات لديها القدرة على اجتراح، حتى، حلول تلفيقية، كما لم يعد لديها الإمكانية لكتم تلك الصرخات ومنعها من التعبير عن وجعها.
نحن جائعون، تلك أس مشاكلنا في أغلب بلدان العالم العربي، تقارير المنظمات الدولية، وحتى تلك الصادرة عن بعض المراكز في بلادنا تكشف هذه الحقيقة المأساة، أكثر من ثلث الشعوب العربية تحت خط الفقر بمسافات، بما يعني أنها عاجزة عن تأمين لقمة العيش، دون أن يعني ذلك بأن المصنفين فوق هذا الخط أحسن حالا، ذلك أن هذه التصنيفات نظرية لا تشتبك مع معطيات الواقع ولا مع حركته المتبدلة يوميا باتجاه الأسوأ.
كانت أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبها الربيع العربي أنه رفع شعارات الحرية، وبدلا من ذلك كان يجب أن يرفع شعارات الشبع، نريد أن نشبع، ربما لأن العربي يخجل أن يقال عنه جائع، فكيف لأمة تتصف بالكرم تقول عن نفسها إنها جائعة؟ كما ارتبط التصريح عن الجوع بالبخل وكذلك بالخوف من استغلال الكرامة أو الحط من القدر والقيمة، وربما لأن أجندة همومنا وعذاباتنا متّسعة فيها القهر والذل والتسلط، لذا لم تكن اللقمة شعارنا لاعتقادنا أنه من المعيب أن نظهر كشعوب لم تر في قائمة عذاباتها غير لقمة الخبز، وهذه باعتقادنا الخاطئ ليست مطالب راقية!
للتذكير فقط، فإن الثورة الفرنسية التي غيرت وجه العالم قامت بسبب الجوع، وضد الفساد الذي مارسته البرجوازية الصاعدة في ذلك الوقت.
راهنت الشعوب العربية الثائرة، على أن العالم لا بد أن يرفد ثوراتها بالتأييد لأنه يحترم النضال في سبيل الحرية، كما أن الحرية بذاتها قيمة مقدسة لا يستطيع كائن إلا أن يدعم المطالبين بها، إن لم يكن بيده فبقلبه ولسانه أضعف الإيمان.
غير أن ما حصل هو أن الثورات المضادة استطاعت إقناع العالم بأن هذه الثورات، ليست سوى تقية لوصول الإسلاميين إلى السلطة ضد حكومات علمانية أو تقودها الأقليات، أو هي نوع من أنواع المؤامرة ضد هذه الحكومات المتوافقة مع السياق العالمي وقيم العولمة والحامية للأقليات، التي تشكل سدا في وجه التعصب الديني الذي ستحمله الثورات إلى السلطة، ألا تدعي هذه الأنظمة أنها تقاتل دفاعا عن العالم!
ووفق ذلك، أصبحت شعارات الحرية، في نظر الخارج، كمينا يراد منه إيقاع العالم الخارجي بفخ تأييده ثم الانقلاب لاحقا وإظهار الوجه الحقيقي للثورات، وبالنسبة للغرب فإن الحرية تبعا لذلك تصبح نوعا من الترف أو الحاجة الزائدة في مجتمعات لا تفهم معنى الحرية ولا حاجة لها بها.
واستطرادا، برزت المعادلة المزورة في الخطاب السياسي الغربي، الأنظمة أو الإرهاب، وتم ابتزاز الشعوب بها وتحذيرهم من أن استبدال الأنظمة سيعني عزلة الشعوب وتركها تواجه مصائرها، أما سقف الحلول وتحقيق المطالب، فتم تحديده بمشاركة فئات جديدة في السلطة، ولا بأس أن تختارها الأنظمة بنفسها.
ما هو قادم ليس ربيعا، لم نعد نرغب بهذه التسميات المستوردة التي تحيل إلى معان أخرى، الفسحة أو شم النسيم، فيما الوقائع كانت ذبحا بلا هوادة للناس في ساحات الاعتصام والمعتقلات وتطاردهم الطائرات الحربية وتدكّهم الصواريخ البالستية، "أي ربيع ذلك الذي طافت شوارع العرب فيه بالدماء"، فيما الأفق أمامهم محدود إما بالموت غرقا أو الذل في مخيمات اللجوء، أو القهر والخنوع تحت بساطير العسكر، وفي ظل شعار من رضي عاش واحمدوا الله على نعمة بقائكم أحياء.
ما هو قادم يجب ألا تلوثه صياغات النخب، دعوه بحسب ما ورد في صرخات الجياع، عاوزين عيش، عاوزين ناكل، إحنا جعانين، وإذا كانت ثورة الطبقات الوسطى قد فشلت في مواجهة الدولة العميقة، وخاصة في مصر، نظرا لوجود بدائل لديها، فإن ثورات الفقراء أشبه بصراع وجودي، فلا بديل عن الخبز، والتنازل عنه، أو حتى عن جزء منه يعني الفناء.
نحن جائعون، وصراخنا ليس ترفا ولا تسلية، وعلى العالم أن يدرك أن هذه الأنظمة والعصابات الحاكمة في بلادنا لن يكون لديها حلول للخروج من هذا المأزق بسبب خراب بنيوي بداخلها، وأنه لن ينفع هذه المرّة ابتزازنا بشيء، والمعادلة يجب أن تكون، إما المساعدة في اجتثاث هذه الأنظمة أو فطوفانات الهجرة واللجوء، ليس لدينا بدائل أخرى.