نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا للصحافي والمعلق التركي مصطفى أكيول، يتحدث فيه عن مفهوم الحرية وموقف المسلمين منه.
ويقول الكاتب: "شاهدت مؤخرا حوارا يدعو للفضول، كان الحوار قد تم في 2015 في جمعية الإعلام الحر في الدنمارك، وكان بين السياسي الهولندي اليميني المتطرف
غيرت ويلدرز، الذي يقوم بحملات ضد الإسلام، ويسعدني أن أقول إنه لم ينجح في الصعود إلى سدة الحكم في انتخابات هولندا هذا الشهر، وكان الطرف المقابل من الحوار الصحافي فليمنغ روز، الذي أغضب المسلمين عام 2005 بنشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) في الصحيفة الدنماركية (جيلاندس – بوستين)".
ويشير أكيول في مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن جوهر الحوار كان يتمحور حول السؤال الآتي: ماذا نفعل بالمسلمين والإسلام في
أوروبا؟ فقال ويلدرز إنه يجب حظر القرآن، وإغلاق المساجد، لكن روز رأى بأن هذا الرأي استبدادي جدا، وأن المسلمين يستحقون الحرية مثلهم مثل غيرهم، وقال: (لا يمكنك حرمان المسلمين من حقهم في بناء مسجد أو إنشاء مدارس دينية) فقط لأن بعض الأوروبيين يرونهم مزعجين".
ويعلق الكاتب قائلا إن "معظم المسلمين الذين يشاهدون النقاش سيتعاطفون مع آراء روز؛ ظنا منهم بأنه يدافع عنهم، لكن روز كان يدافع عن مبدأ ليبرالي: الحرية للجميع، إنها المبادئ ذاتها التي دفعته لنشر الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويرى
المسلمون، بمن فيهم أنا، هذه الرسوم جارحة".
ويبين أكيول أن "هذا أحد مظاهر المفارقات التي يواجهها المسلمون في العالم الحديث، خاصة من يعيش منا في الغرب: فهم مهددون من القوى المتخوفة من الإسلام، التي تحتاج إلى الحماية التي توفرها
الليبرالية، حرية التعبير وحرية الدين وعدم التمييز، لكن الليبرالية تجلب لهم أيضا حقائق يعدها معظمهم غير إسلامية، وفيها عدم احترام للدين، مثل التساهل مع المثليين والإباحية الجنسية، لذلك لا يستطيعون التحديد بسهولة إن كانت الليبرالية شيئا جيدا أم سيئا للمسلمين".
ويلفت الكاتب إلى أن "هناك مفارقة أخرى يمكن رؤيتها عندما يتم تناول لباس المرأة في النقاش، عندما يتدخل الليبراليون العلمانيون في الغرب في ملابس النساء المسلمات المحافظات، – حيث هناك منع للنقاب والبوركيني (بدلة السباحة للمحجبات) وحتى غطاء الرأس، فالدفاع عن ذلك موجود في الليبرالية: للنساء الحق في أن (يلبسن ما يرغبن لبسه)، وهذه بالطبع حجة شرعية تماما في مجتمع حر".
ويستدرك أكيول بأن "قيام المرأة بلبس ما تشاء أمر لا يتفق معه بعض المسلمين -إن كان ذلك يعني مثلا بناطيل الجينز الضيقة أو التنانير القصيرة- ففي السعودية وفي إيران تجبر النساء بالقانون على تغطية رؤوسهن، وفي الواقع فإن السعودية من بعض النواحي هي صورة مرئية لظاهرة هيمنة الثقافة الواحدة التي يحلم بها ويلدرز: أرض تمنع فيها الكتب المقدسة والمعابد لأي دين غريب، ليس القرآن والمساجد في هذه الحالة، لكن الإنجيل والكنائس".
ويجد الكاتب أن "هذا لا يعني أن يكون المسلمون الذين يطالبون بالحرية في الغرب هم المسؤولون عن نقص الحريات في الدول (الإسلامية)، لكنه يعني أن على القيادات الفكرية للمسلمين -الأئمة والعلماء والمفكرين- أن يفكروا جيدا في سؤال أساسي: هل الليبرالية شيء جيد أم سيئ للمسلمين؟ وهل يؤيدون الحرية أم لا؟".
ويقول أكيول إن "المسلمين يؤيدون الليبرالية في العادة عندما يناسبهم الأمر، ويرفضونها عندما لا تناسبهم، فيستخدمون حرية الدين مثلا في الغرب للحصول على متحولين للإسلام، وفي الوقت ذاته يشجبون أي متحول من الإسلام إلى ديانة أخرى، ويسمونه (مرتدا) يستحق القتل، أو المطالبة بحرية تنظيم تجمعات سياسية في أوروبا، في الوقت الذي تمنع فيه تجمعات المعارضة في بلادهم، كما فعلت الحكومة التركية خلال الخلاف الذي نشب بينها وبين هولندا مؤخرا".
وينوه الكاتب إلى أن "مثل هذه الازدواجية في المعايير يمكن أن تجدها في كل مجتمع. فويلدرز نفسه الذي يؤيد (الحرية) وفي الوقت ذاته يسعى إلى منع القرآن، فهو مثال جيد على ذلك، لكن بعض المسلمين المعاصرين يفعلون ذلك بكل سهولة، حيث ينتقلون بحسب رغبتهم بين (قوانيننا) و(قوانينهم)، وهذا ما حذر منه عالم الدين التركي المشهور علي برداك اوغلو، المدير السابق لمديرية الأديان، حين كتب حول (الأخلاقيات المزدوجة) في كتاب حديث، داعيا المسلمين أن يكونوا أكثر نقدا لأنفسهم، وقال إن على المسلمين ألا يكونوا (أناسا يتأرجون بين نظم القيم المختلفة)".
ويفيد أكيول بأن "المشكلة الأعمق هي أن الإسلام، بصفته عقيدة أخلاقية وقانونية، تطور في وقت كان فيه العالم يختلف تماما، حيث كان هناك القليل من مفهوم الحرية الفردية حين كان يعيش الناس في مجتمعات محددة، ولم تكن هناك أفكار حول قانون دولي أو حقوق إنسان أو دولة علمانية أو حرية التدين، أضف إلى ذلك أن الإسلام كان في العادة الديانة المسيطرة، فسن المسلمون القوانين لصالحهم، مثل التسامح مع غير المسلمين بصفتهم (أهل الذمة)، لكن كمجتمعات أقل درجة".
ويؤكد الكاتب أن "ذلك العالم القديم ذهب منذ زمن، وهناك الآن عالم مختلف تذوب فيه الحدود، وتلتقي الثقافات، ويتنقل الأفراد، والقوى التي تحاول عكس هذا التوجه -عولمة الليبرالية- هي في العادة القوى التي تبغض الإسلام وتهدد المسلمين".
ويخلص أكيول إلى القول: "على قادة الرأي المسلمين أو يقرروا أين يقفون، فهل نريد، كوننا مسلمين، عالما حرا على قواعد عالمية يعيش فيه الجميع، بما فيه نحن، بحسب قيمهم؟ أم أننا نفضل عالما منفصلا، حيث يفرض من يملك السلطة قيمه؟ وإن اخترنا الأخير فمن الذي سيحمينا من غيرت ويلدرز وأمثاله؟ وفي الواقع فهل نحن نختلف عنه؟".