حملت جريمة اغتيال الشهيد مازن فقهاء في طياتها العديد من الحيثيات والدلالات، وستكون لها حتماً تداعيات فيما يتعلق بالحرب المستمرة بين حماس وإسرائيل ولكن بأشكال أخرى غير تلك التي شهدناها في حروب غزة الثلاث، رغم التهدئة أو الهدنة السائدة بين الطرفين منذ انتهاء الحرب الأخيرة في شهر آب/ أغسطس 2014.
لا يمكن تجاهل أو حتى إنكار حقيقة أن الجريمة تمثل اختراقا كبيرا للحالة الأمنية بغزة التي تقودها حركة حماس بشكل مباشر مع عدم تجاهل احتمال حدوث اختراق ما للمنظومة الأمنية نفسها، حتى لو ظل هذا الاحتمال نظريا وعلى الورق فقط، ولكن لا مانع من فحصه والتمعن فيه جدياً أيضاً.
حسب تاريخ جرائم الاغتيال الإسرائيلية فإن اليد التي تضغط على الزناد لا بد أن تكون يهودية، لا يتم أبدا الاعتماد على العملاء في تنفيذ عمليات الاغتيال، وبتطبيق ذلك على جريمة اغتيال الفقهاء نحن أمام توغل تسلل لخلية أمنية إسرائيلية لعمق قلب مدينة غزة لتنفيذ الجريمة، وحسب السيناريو الذي اتبع فالأكيد أن المنفذين قاموا باستطلاع المكان ودراسته من أجل ضمان نجاح مخططهم ببساطة ودون تهويل، ولكن دون تهوين أيضا نحن أمام خلية أمنية إسرائيلية تجولت في غزة بحرية ولعدة مرات، استطلعت درست حفظت المكان نفذت الجريمة، ثم غادرت بسهولة ويسر دون اعتراض أو عراقيل، وهو ما يجب أن يضيء ضوءا بل أضواء حمرا كثرا على طاولة المسؤولين الأمنيين لاستخلاص العبر، تحديد الثغرات وضمان ألا يتم تكرار هذا السيناريو، ولعل أخطر ما في الجريمة تمثل بسهولة التنفيذ وسهولة الانسحاب.
وهنا لا بأس من الأخذ ببعض ما يفعله الإسرائيليون أنفسهم لتبيان تحديد الثغرات وأوجه القصور في إداء جيش الاحتلال، كما تبدا من التقرير الأخير حول حرب 2014، والتي تم الاحتفاء بها فلسطينياً كدليل على فشل الحرب وعجز الدولة العبرية عن تحقيق الانتصار، ما يعني أننا بحاجة إلى لجنة تحقيق من خارج المنظومة الأمنية تدرس كل شيء تحدد مكامن الخلل وكيفية معالجتها لضمان ألا تتكرر الجريمة مرة أخرى، ومع مقاومين آخرين.
في حيثيات الجريمة فإن إسرائيل لم تلجأ إلى الاغتيال من الجو كما كانت تفعل مع قيادات المقاومة في غزة، ورغم تغيير تكتيكها في الفترة الأخيرة واستغلال صواريخ داعش العبثية لتوجيه ضربات إلى البنى التحتية للمقاومة، إلا أنها لم تلجأ مثلاً لاغتيال المسؤولين عن الأنفاق، أو قادة الجناح العسكري لكتائب القسام بغزة، هي اختارت وسيلة مغايرة هذه المرة استهدفت أحد المسؤولين عن العمل المقاوم في الضفة الغربية الساحة غير المشمولة بالتهدئة رسمياً أو علنيا، وإشارتها الضمنية أنها لا تريد الذهاب إلى تصعيد أو حرب جديدة مع حماس في غزة.
ومن هنا فإن حماس ستفهم مغزى الجريمة الإسرائيلية، وللمفارقة ورغم مقدار القوة الكبيرة نسبياً الذي تمتلكه الحركة وتحكّمها بالسلطة في غزة، إلا أنها لا تستطيع الرد من هناك تحديدا، وطبعاً لا تستطيع الرد بالصواريخ أو عمليات مباشرة عبر الحدود. والحركة مقيدة في الردّ كي لا تذهب الأمور باتجاه حرب جديدة، والخيارات جدّ ضيقة وتتراوح بين عملية كبيرة في الضفة قد تتدحرج الأمور بعدها إلى حرب كما حصل مع خطف المستوطنين الثلاثة في حزيران/ يونيو قبل ثلاث سنوات أو عملية أمنية تشبه اغتيال الفقهاء عبر اغتيال أحد الضباط أو أحد المسؤولين الإسرائيليين، وهي التي تحتاج إلى تحضير وبنى تحتية تنظيمية كبيرة ومتماسكة بالمعنى الأمني، طبعا وهو ما يبدو غير متوفر أقله حالياً في الضفة الغربية نتيجة جهود الأجهزة الأمنية للسلطة وطبعا التنسيق مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي تتحرك بحرية كبيرة في الضفة أيضاً.
جريمة الاغتيال أظهرت كذلك كيف تتحول السلطة الفلسطينية بشقيها إلى عائق أمام الاصطدام والاشتباك المباشر مع الاحتلال في الضفة وغزة على حد سواء. فحماس لا تستطيع الذهاب إلى الحرب في غزة لعدة أسباب منها وجود السلطة وبالأحرى قيادتها للسلطة، والرغبة في الحفاظ على التهدئة كون غزة لا تتحمل حربا جديدة بينما لم يتم إعادة إعمار ما هدمته الحروب السابقة ونفس الأمر يمكن قوله عن السلطة في الضفة الغربية التي لا تسمح لحماس بالتحرك أو تنفيذ عمليات كبيرة لأنها تعتقد أن هذا سيرتد سلبا على الواقع، وأن الضفة لا تتحمل تدهورا أمنيا كبيرا، وهو نفس ما يمكن قوله عن غزة طبعاً.
جريمة الاغتيال أكدت مرة أخرى أن حماس هي من تقود المواجهة الحربية مع إسرائيل بعدة جبهات وأشكال، ومع امتلاكنا لأجنحة عسكرية: مقاتلين ومقاومين كثر، إلا أننا لا نملك سوى جناح عسكري واحد بالمعنى الدقيق والكامل للمصطلح ويتمثل طبعاً بكتائب القسام، إلا أن هذا لا يعطي الحق لحماس سياسياً بالتفرد بقرار الحرب مع إسرائيل كما لا يعطي الحق لفتح والرئيس عباس بالتفرد بقرار السلم معها.
من هنا وبناء على ما سبق فإنه يجب على حماس ألا تتسرع في الرد أو تكون في عجلة من أمرها، فالردّ الحقيقي يتمثل بالصمود والعناد وعدم الاستسلام أمام إسرائيل حرباً أو سلماً، كما يتمثل في استمرار الصراع معها على كل الجبهات، إيذائها ورفع كلفة الاحتلال عليها ومنعها من إستكمال مخططات الاستيطان والتهويد، خاصة في القدس الشريف ومحيطها. وبالنسبة للشهيد الفقهاء الذي كان صادقاً منسجماً مع نفسه، وفيّا لمبادئه وقناعاته فقد نال ما يريد ويستحق ومضى إلى جانب شهداء شعبنا العظماء الذين لم ينل استشهادهم من صمود الناس أو الرغبة في المضي قدماً حتى تحقيق أهدافنا في عودة الحرية وتقرير المصير على كامل التراب الوطني الفلسطيني.