نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا لمراسلها باتريك كينغزلي، روى فيه قصتين للاجئين سوريين في
تركيا؛
مهرب لاجئين وطفل يعمل في الحقول.
ويبدأ الكاتب تقريره بالقول إن "أبا محمد، الذي يقدر أنه كسب قبل عامين 800 ألف دولار من تهريب البشر من تركيا إلى اليونان، وكان له مكتب في منطقة أكساري، التي تعج بالسوريين، وفي مرحلة من المراحل كان يصله 80 ألف مكالمة هاتفية لم يجب عليها، لا يدق هاتفه اليوم، وليس لديه مكتب، وأحيانا يقف على الشارع وينظر إلى الأعلى إلى مكتبه السابق، حيث تراجعت الهجرة بين تركيا واليونان بنسبة تبلغ أكثر من 95% منذ أن وصلت إلى ذروتها في أواخر عام 2015، ومع هذا التراجع انهارت تجارة أبي محمد".
ويضيف كينغزلي أنه "منذ بداية 2016، قامت دول البلقان بجعل المرور منها إلى أوروبا صعبا، ما قلل من الإقبال على خدمات أبي محمد، بالإضافة إلى أن تركيا جعلت الأمر أكثر صعوبة على المهربين، واحتجزت الأشخاص الذين يعملون مثل أبي محمد لعدة أشهر العام الماضي، ووافق أبو محمد أن يتحدث معي بشرط عدم إظهار وجهه في الصورة بوضوح، وبشرط ذكر اسمه المستعار فقط".
ويتابع الكاتب قائلا: "قابلت أكثر من عشرة مهربين في ثلاث قارات، وكلهم مثل أبي محمد أكثر تعقيدا من الصورة التي يرسمها السياسيون والصحافيون في العادة لمهربي البشر".
ويشير التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن "أبا محمد نشأ في
سوريا، وأصبح مساعد جراح، إنسانا ينقذ الناس بدلا من وضعهم في موضع الخطر، وتحول إلى مهرب بشر عندما فر إلى تركيا، وبعد أن غرق تقريبا في محاولة له لوصول أوروبا عندما كان راكبا، بعدها لم يكن ركابه مجرد زبائن، حيث تضمنوا أقارب له، وحتى ابنه الصغير، ويقول إن إرسالهم في البحر كان متعبا للأعصاب وأحيانا مخيفا".
وتورد الصحيفة نقلا عن أبي محمد، قوله إن العمل كان مخجلا، ومع أنه يعترف بشيء من الافتخار الصامت بأنه أدى دورا في التدفق غير العادي للناس، حيث وصفه بالقول "إنه لم يكن شيئا عاديا"، لكنه شيء لا يريد أن يرتبط به، ويقول: "إنه عمل قذر.. من الصعب أن تجد شخصا أمينا في هذا العمل".
ويبين كينغزلي أن "أبا محمد، مثل كثير من المهربين، رأى نفسه وسيطا أمينا بين جمع من الكاذبين، معترفا بالمشكلات الأخلاقية المتعلقة بهذا العمل بشكل عام، محاولا عدم المساس بسمعته، لكنه يقول إنه اليوم يتجنب الأماكن التي كان يعقد فيها الصفقات".
ويقول الكاتب: "مشينا في شوارع (أقصراي)، وهي مركز تهريب البشر في إسطنبول، وكان أبو محمد يشير إلى مقاه لم يعد يلتقي فيها بزبائنه، وبقالات لم تعد تبيع ستر النجاة، وحديقة عامة صغيرة لا ينام فيها
اللاجئون".
ويلفت التقرير إلى أن "الحياة أصبحت بطيئة الوتيرة لأبي محمد الآن، لكنها أقل ضغطا، حيث يقول إنه لا يفتقد الهواتف التي كانت تصله في وقت متأخر من الليل من زبائن خائفين كانوا يتصلون به أحيانا من عرض البحر، ويلاحق أبو محمد الآن من كانوا زبائنه، فمن الـ 800 ألف دولار، التي قال إنه كسبها عام 2015، هناك الربع تقريبا لم يتم تسديده من لاجئين وعدوا بالدفع حين الوصول إلى أوروبا".
وتستدرك الصحيفة بأنه مع ذلك، فإن أبا محمد اكتسب ما يكفيه من المال ليغير عمله للمرة الثالثة في حياته، مشيرة إلى أنه الآن لديه خطط لاستخدام أرباحه لشراء مقهى، حيث بدأ في البحث عن المكان المناسب.
ويتساءل كينغزلي قائلا: "هل يترك مهرب مهنته؟ بعد أيام من لقائنا هدد السياسيون الأتراك بتشجيع موجة جديدة من المهاجرين إلى أوروبا، وفكرت هل سيفكر أبو محمد في العودة إلى عمله السابق، إن كان بإمكان تركيا (على الأقل أن تغض الطرف عن اولئك الذين يحاولون عبور الحدود)، ثم ضحك وقال: (ونحن سنتولى البقية)".
وينوه التقرير إلى أنه "بالمقارنة مع حياة أبي محمد في التهريب، فإن إسماعيل العنزي يرتدي (أفرهولا) أكبر من حجمه، ومن الصعب تقدير عمره، فهو من بين عدد من السوريين الذين يقومون بتنظيف الخضراوات في حقول في غرب تركيا، ولا تستطيع تمييز إن كان هذا الشخص، المنحني، الذي يلبس (أفرهولا) واسعا، رجلا أم امرأة أم طفلا، وعندما يرفع عينيه لينظر إليك ترى فجأة وجهه".
ويقول الكاتب: "إنه وجه طفل في الخامسة عشرة من عمره، طفل يجب أن يكون في المدرسة، لكن إسماعيل هو واحد من حوالي 380 ألف طفل سوري لاجئ في سن الدراسة في تركيا سجناء لنوع من عمالة
الأطفال، أو بكل بساطة ليسوا منتظمين في مدرسة، لماذا يعمل؟ يجيب: (لأن علي أن أعيش)".
ويضيف كينغزلي أن "أباه ياسين يعطي جوابا أكمل، حيث يقول: إنهم عائلة دون مأوى، وبيتهم في سوريا تضرر خلال الحرب، ولا يزالون غير قادرين على استئجار سكن في تركيا، وياسين لا يستطيع أن يجد عملا دائما؛ لأن المزارعين في تركيا يفضلون العاملين الشباب مثل إسماعيل".
وتذكر الصحيفة أن وظيفة إسماعيل كل يوم هي قلع وغسل حوالي ألف جذر لنبات كرفس "الكرفس اللفتي"، الذي يستخدم في الطبخ، ويعمل في اليوم حوالي 11 ساعة في 6 أيام في الأسبوع، ويحصل مقابل ذلك على 800 ليرة تركية في الشهر، أو ما يعادل 225 دولارا أمريكيا، بالإضافة إلى ذلك فإن مشغل إسماعيل سمح له بأن يبني خيمة في أرضه دون مقابل.
وبحسب التقرير، فإن معظم السوريين في تركيا، والبالغ عددهم 2.9 مليون لاجئ، يضطرون للعمل بشكل غير قانوني؛ لأن موظفيهم لا يساعدونهم في الحصول على إذن عمل، مبينا أنه كون إسماعيل عاملا في المزارع فإنه لا يحتاج إلى إذن عمل؛ لأن قطاع الزراعة معفى من ذلك، لكن أجره أعلى بقليل من نصف الأجر القانوني الأدنى.
ويقول الكاتب: "في عملي السابق، كوني مراسلا حول الهجرة، كتبت كثيرا عن السوريين الذين غامروا للسفر في القوارب إلى أوروبا، لكن معظم السوريين في الواقع عالقون في بلدان مثل تركيا، التي يعيش فيها سوريون أكثر من أي بلد آخر عدا سوريا، وبالنسبة للعائلات الفقيرة مثل عائلة إسماعيل، فإن أوروبا مجرد حلم بعيد المنال، حيث أن تكاليف التهريب عالية جدا".
وتورد الصحيفة نقلا عن ابن عم إسماعيل، ياسر خالد، الذي يعمل معه في المزرعة، قوله: "لا أدري كيف يمكن لي أن أصل إلى هناك"، حيث أنه وابن عمه لديهما القليل من المال، ولذلك فهما يعيشان في الخيام في غرب تركيا، ويقول ياسر إن المبلغ الذي يطلبه المهربون كبير جدا ولا يستطيع مجرد تخيله.
ويستدرك التقرير بأن "إسماعيل لا يزال يهاجر في حدود تركيا، وبحسب القانون، فإنه يجب على السوريين البقاء في المحافظات التي يسجلون فيها، لكن الواقع هو أنهم في تنقل دائم ليجدوا عملا، وإن تم القبض عليهم فإنهم يعادون إلى المحافظة التي تم تسجيلهم فيها".
ويقول كينغزلي: "في اليوم الذي زرتهم فيه، تم إخبار المخيم في الجهة المقابلة بالانتقال، وبعدها جاءت الشرطة للمخيم الذي يعيش فيه إسماعيل، وعليه أن ينتقل غدا هو وعمال آخرون إلى قرية قريبة، قام المزارع الذي يشغلهم بإيجاد غرف لهم فيها".
وتختم "نيويورك تايمز" تقريرها بالقول إن "هذه كانت رابع مرة ينتقل فيها إسماعيل خلال عامين منذ فرارهم من سوريا، إلا أن إسماعيل الآن لديه أمور أكثر أهمية، فيقول: (أنت تحرجني.. علي أن ألعب)، ويعيد انتباهه للعبة الـ(أونو)، التي كان يلعبها مع أخيه الأصغر خالد".