عرفت
الصين نظام بيروقراطية الدولة منذ القرن السادس الميلادي، حيث تبلور نظام يعتمد الكفاءة للحصول على موقع في الإدارة الإمبراطورية، المدني منها والعسكري. بدلا من أن تمنح الوظائف لأبناء الشريحة الاستقراطية، أو عبر تزكيات النافذين في الطبقة الحاكمة، بنى الصينيون نظامهم الإداري على أساس من امتحان تنافسي، مفتوح للجميع، يشترط اجتيازه أولا قبل التحاق الطامحين بجهاز الدولة.
خلال القرون التالية، لم يحافظ نظام الكفاءة الصيني دائماً على مصداقيته، واختلفت حظوظه بين إمبراطور وآخر، وأسرة حاكمة وأخرى. كما أن صعوبة الامتحان، الذي ارتكز إلى الثقافة الكونفوشيسية وأساليب استخدام اللغة وشكلياتها، جعلت أغلب المتقدمين له من أبناء ملاك الأراضي، وليس بالضرورة من عامة الناس. ولكن ذلك لم يمنع النظام من الاستمرار، وأن يصبح نافذة للترقي الاجتماعي واختراق السقف الطبقي، بالاعتماد على الموهبة والعمل الجاد والتفاني في خدمة الدولة.
عرف المسلمون الصين بصورة مبكرة، سواء عبر قنوات التجارة أو مواجهات الحرب. ولكن الأثر الأهم على بنية إدارة الدولة في التاريخ الإسلامي المبكر والوسيط جاء من الفرس والبيزنطيين. ويمكن القول أن نظام إدارة الدولة الإسلامية ارتكز إلى رافدين متباينين: الكفاءة، من جهة، والأسرة والفئة الاجتماعية، من جهة أخرى. في مؤسسة العلماء، التي قدمت القضاة والمحتسبين وأغلب حراس الوقف والمدرسين، كما في الجيش، كانت الكفاءة والقدرات الذاتية هي المقياس.
وبالرغم من أن المسلمين لم يعتمدوا نظام الامتحان العام، فإن كلاً من هاتين المؤسستين تعارف على مقاييس ومعايير وتقاليد، أصبحت المحدد لمكانة العالم أو القائد
العسكري. ولكن الدولة الإسلامية، سيما منذ العهد العباسي الثاني، عرفت أيضا سيطرة أسر معينة، ولعقود أحياناً، على منصب الوزارة. كما أصبح للعصبيات والصلات الفئوية دور ملموس في الالتحاق بإدارة الحكم المركزية، أو إدارة الولايات.
في العهد العثماني، حيث احتفظت الدولة بجيش كبير ودائم، وتتطلب إدارة ممتلكاتها جهازا أكبر، نشأ نظام إداري إمبراطوري أكثر تعقيدا. باتساع نطاق السلطنة، أدخل العثمانيون نظام "الدفشرمة"، الذي يعتبر امتداداً، على نحو ما، لمؤسسة الجند المماليك، الذي كان المعتصم العباسي أول من جاء بهم إلى الدولة الإسلامية. ولكن الدفشرمة كان أكثر تمييزا واتساعا. جلب العثمانيون الشبان الصغار من المناطق المفتوحة ذات الأغلبيات غير المسلمة، ومنحوهم تدريبا وتعليما إسلاميا وإدرايا وعسكريا.
وكانوا من ثم يتوزعون حسب مؤهلاتهم على الإدارة المدنية للسلطنة، وإنكشارية الجيش. ولكن، وبالرغم من أن نظام الدفشرمة حرر الدولة من سيطرة العصبيات المحلية، فإن الإدارة العثمانية لم تكن مهنية ومحايدة تماماً. في كثير من المواقع، سيما في الولايات، برزت أسر توارثت مسؤولية جمع الضرائب على الأراضي والمحاصيل، أو ما عرف بنظام الالتزام؛ كما أن مواقع متقدمة ومجزية في الإدارة كانت تشترى بمقدم مالي؛ وأخرى، بما في ذلك الوزارة، كان يمكن أن تستقر في أسرة واحدة لعدة أجيال.
منذ القرن السادس عشر، لاحظ الأوروبيون، الذين بدأوا التجارة مع الصين، نظام
البيروقراطية الصيني وامتدحوه. وفي 1806، وتحت إلحاح موظفيها المقيمين في ميناء كانتون الصيني، أقامت شركة الهند الشرقية كلية قرب لندن لتدريب موظفيها على العمل، قبل التحاقهم بمكاتب الشركة في بريطانيا أو الهند. في 1829، ومع اتساع نطاق سيطرتها على القارة الهندية، أدخلت الشركة نظام الامتحان التنافسي لطالبي العمل معها. هذه الخطوة، التي ولدت من رحم المشروع الإمبريالي، وفي أكبر مستعمرة بريطانية على الإطلاق منذ خسارة أمريكا الشمالية، كانت محطة البداية لولادة بيروقراطية الدولة بمعناها الحديث. النجاح الذي حققته شركة الهند الشرقية في بناء كادر إداري كفؤ، لفت انتباه قادة الدولة البريطانية في لندن، وهو ما دفع وزير المالية غلادستون، في 1853، إلى تشكيل لجنة لدراسة مقترحات لإصلاح النظام الإداري البريطاني. قدمت اللجنة في العام التالي تقريرها، الذي وضع فورا موضع التنفيذ، وأسس لما سيعرف في بريطانيا، إلى اليوم، بالخدمة المدنية.
نشأت الدولة الحديثة، الدولة المركزية، التي يفترض بها السيطرة على مقدرات البلاد وإدارة شؤون مواطنيها، في القرنين السابع والثامن عشر. ومع تطور آليات التجارة والإنتاج، بعد انفجار الثورة الصناعية، تضخم جهاز الدولة الإداري. ولكن، ولأن الجهاز ارتكز إلى طبقة معينة، واعتمد مبدأ شراء المواقع في كثير من الأحيان، فقد تخلله الفساد وسيطرت عليه قيم السعي إلى الثراء السريع. بإدخال النظام البيروقراطي الحديث وقيم الكفاءة والمهنية، لم يعد موظفو الدولة أسرى لأهواء سياسية، أو مقيدين بخلفيات طبقية. كما أصبح العمل في إدارة الدولة أكثر أماناً. الشروط الوحيدة للالتحاق بإدارة الدولة هي اجتياز امتحان الكفاءة، الولاء للدولة، وليس لحزب أو زعيم سياسي، والالتزام بمتطلبات الوظيفة. ولا يمكن أن يفقد موظف موقعه إلا إن ارتكب ما يخل بشروط تعاقده، أو توفرت أدلة على فساده واستغلاله موقعه.
في 1871، تقدم جنرال أمريكي، من أصول ألمانية، خدم في الجيش الفيدرالي أثناء الحرب الأهلية، بمقترحات لتبني نظام الإدراة الحديث، الذي كان بدأ في الانتشار في أوروبا، بعد أن أثبت نجاعته في بريطانيا. حتى ذلك الوقت، كانت ينظر إلى الإدارة الفيدرالية باعتبارها غنيمة حزبية، يتغير العاملون فيها بمجرد انتخاب رئيس جديد أو تولي حزب آخر مقاليد الحكم.
في العام التالي، تبنى الرئيس يوليسيس غرانت المقترح بصورة جزئية، ولكن ليس حتى إقرار الكونغرس لقانون ميدلتون (عرف باسم السيناتور من أوهايو، الذي تبنى مشروع القانون)، في 1883، أن أصبح هناك بيروقراطية فيدرالية للولايات المتحدة على النمط الحديث. يحق للرؤساء الأمريكيين، ورؤساء الدوائر الذين يعملون معهم، عند الانتقال من حكم أمريكي إلى آخر، تعيين عدد معين من المساعدين والخبراء، ولكن الجسم الأساسي لبيروقراطية الدولة مستقل كلية عن المتغيرات السياسية. والعرف، أن يقوم هؤلاء، الذين اكتسبوا مواقعهم بقرار سياسي لخدمة رئيس معين، بتقديم استقالاتهم بمجرد نهاية ولاية هذا الرئيس وحكومته.
وضع العثمانيون نهاية للانكشارية العسكرية في 1826، وتوجهوا نحو بناء جيش حديث؛ ومنذ أربعينيات القرن التاسع عشر، بداية ما يعرف بالتنظيمات العثمانية، أخذوا بإعادة بناء جهاز الدولة الإداري. في معظم أنحاء العالم الأخرى، كان للتأثير البريطاني الدور الأكبر في انتشار نظام البيروقراطية الحديثة، المستقلة سياسيا، والذي يفترض أن يستند إلى اعتبارات الكفاءة والولاء والتفاني. في بعض الدول، كما هو واضح اليوم، عملت الأنظمة السياسية على السيطرة على مؤسسة الدولة الإدارية، وأدت بالتالي إلى تقويض قيمها وإفسادها وتحويلها إلى أداة لخدمة الطبقة الحاكمة وسيطرتها. ولكن النظام الإداري الحديث حافظ على مصداقيته واستقلاله في كثير من دول العالم الأخرى، سيما الديمقراطيات الغربية.
في هذه الدول، تتوراث البيروقراطية، المدنية والعسكرية والأمنية، القيم والثقافة والتقاليد، وتقوم بدور الحارس لمصالح الدولة، المعبر عن خطابها، ومخزن أسرارها. أو، بكلمة أخرى، تعتبر هي الدولة.
الحديث عن دولة عميقة اليوم، كما يجري توصيف صراع إدارة ترامب مع دوائر الدولة الأمريكية، هو أقرب للسذاجة واختيار الطريق الأسهل لقراءة الاجتماع السياسي. ما هنالك ليس دولة عميقة، بل دولة؛ دولة مستديمة، باقية، ذات وعي عميق بنفسها ودورها، وسياسيون مؤقتون، يأتون ويذهبون.
عندما يصطدم تصور السياسي المنتخب، المؤقت، مع تصورات الدولة لمصالحها الكبرى وقيمها وتقاليدها، على السياسي أن يتغير. ليس لأن الدولة عصية على التغيير؛ الحقيقة، أن الدولة تتغير هي الأخرى، ولكن وتيرة تغيرها بطيئة، وتكاد لا ترى في كثير من الأحيان. إن لم يدرك السياسي متطلبات العلاقة مع الدولة التي يقودها، فللدولة وسائلها الخاصة لإجباره على الانصياع.