الخطاب المعسكر و"تبكيت" الشعب

يبقى صاحب السلطة في منظومة الانقلاب، التي يمثلها العسكر دائم الحضور والمراقبة لتوزيع الكلام، وتحديد المواطن الصالح، وشكل العملية السياسية والتعامل. 

فيجري كل أمر بمزاجه ومن تحت يده، صاحب السلطة العسكري لا يمنع أن ينظر إلى أولئك الذين هم أدنى منه أنهم مجبرون علي التوسل إليه، وسؤال خاطره في كل لحظة. 

بمعنى، أنهم لا يتعين عليهم أن يفعلوا ما يأمرهم به وحسب، بل عليهم كذلك أن يفكروا كما يريدهم هو أن يفكروا. 

وفي أغلب الأحيان، يكون من الواجب عليهم أن يستبقوا أفكاره استجلابا لمرضاته.

وفي هذا السياق، نشأ ما يمكن تسميته بـ"السلطة المتألهة" التي تتأله استنادا إلى الدولة الدينية أو الفاشية العسكرية، كل يتأله على طريقته وبأساليبه التي يجيدها، ليس عليه من معقب، كامل العصمة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أن العسكر في حكمهم وتحكمهم في ميادين السياسة والاقتصاد يتحركون صوب مصالحهم الأنانية المباشرة والضيقة.

وبدا العسكر في نصهم "المركزي" و"الاستبدادي" تمارس أقصى درجات الرقابة على عموم الناس والمواطنين، بينما عناصر الرقابة عليهم محض خيال، أو مساءلتهم محض استحالة. 

هذه الحالة من "التغوُّل" على المواطنة، جعلت مؤسساتها تُرَدِّد على مسامعنا أن من مهامها إخراج "المواطن الصالح"، واستولت -ومن طريق أمني ضيق- على هذا المفهوم. 

المواطن الصالح في عرفهم من يطيع الأوامر دون مناقشة، ويردد دائما "تمام يا فندم"، ضمن عناصر معادلة طاغية واحتكارية، والوصول إلى المواطن ضمن حالة قبول إذعاني، المواطن يروض نفسه في عملية تدريبية ذهنية ونفسية لهذا السلوك الإذعاني.      

هذه الحال من الحضور المهيمن للعسكر على أشكال الخطاب، حتى لو بدا أنهم لا يصدرونه بشكل مباشر، فقد يبدو الخطاب في أشكال مدنية مظهرية تمثل غطاء لمفردات خطاب معسكر مسكون بالعسكر، حيث يختفي الخطاب المدني أو السياسي أو يكاد. 

وإن وجد، فإنه يصدر من قبيل الزينة، أهم سمات هذا الخطاب المعسكر، أن القائم بالخطاب يقوم بكل عمل يحاول فيه الاستيلاء على مفاصله، وعمليات تشكيله، وترويجه، والقيام بعملية إقصاء أي خطاب معارض أي كانت جهته أو وجهته. 

وهو أمر اشتهر في هذا المقام بالأذرع الإعلامية والثقافية والفنية والدينية لخطاب عسكرة المجتمع، والتبشير به، والترويج له، والترويج للمؤسسة صاحبة المصلحة فيه. 

فتجعل هذه المؤسسة أقرب ما تكون إلى مساحات القداسة والعصمة، بحيث ترفض أي خطاب يراجع أو يراقب أو يحاسب، وتضعه في خانات التشكيك والتخوين، والوصف بعدم الوطنية.

وغالبا، ما يختلط هذا الخطاب بخطاب "الدولتية" حول الدولة، ويشكل "الدولتيون" فيه أهم العناصر الفاعلة التي تحمل هذا الخطاب، وتروج له بأذرعها المختلفة، بل إن هذا الخطاب يمارس كل ما من شأنه تكميم الأفواه، ومنع الاحتجاجات، وعدم التعقيب على أي أمر مهما كان عظيما أو جليلا، أو يرتبط بحالات تفريط أو فساد ظاهر، أو انحراف فاضح، أو عمل وفعل جامح. 

كل هذا تحت خطاب الأمن والتأمين، وضمن عملية الخطاب الأمني، هكذا تدار الأمور بشكل أخطر من ذلك، أن تمارس خطابات استئصالية أو خطابات تزرع الكراهية تقوم على الاستبعاد والتنافي، بل وفتح الطريق لممارسة أحوال من الإبادة الجماعية أخطر ما تكون. 

فتحدث خطابا استثنائيا شديد القبح، وشديد الدناءة، حينما تمارس وتزرع خطابا للكراهية، يمهد لخطاب الاقتتال الأهلي، وتفتيت الجماعة الوطنية.

والأخطر من ذلك جميعا، أن يؤسس لخطاب كل غرضه أن يشكل عقلية قطيع في إطار عمليات ممنهجة من التطبيع والتطويع ومن التخويف والتفزيع، ومن الخرافة وبيع الأوهام والأحلام. 

خطاب يشكل معامل اختبارية لحالة الجمهور في إطار أعطني عقلك وسر ورائي، يستند هذا الخطاب إلى حالة من الإذعان والتوسع، وهو خطاب في طبيعته خداعي يتسم بالتعمية والتغييم والتغمية، وخطاب تهديدي (يا نحكمكم يا نموتكم). 

يصدر ذلك الخطاب من أطراف عدة، ليس المهم فيه الرتبة، ولكن المهم فيه الفحوى، خطاب تحت ظلال السلاح، قعقعة السلاح والتلويح به، خيال المعسكر وخطاب المعسكر كعملية لعسكرة السياسة، ومصادرة المجال العام (تنميط الصوت) توحيد الفعل في مجالات السياسة، المدني والخدمة العسكرية واختبارات التصرف بحسب مقتضيات العسكر والمعسكر.

خطاب تسوده مفردات مثل "نحن جميعا جيش"، "نحن في حالة حرب"، "في حالة دفاع عن الوجود". 

خطاب تعبوي هادف إلى عسكرة الحياة ربما يقود إلى ظواهر العسكرة الفاشية. 

"كلنا جنود" خيال الفاشية (خطاب تعبوي)، الخطاب التعبوي يتحول إلى الفعل والحركة، العسكري حالة مفضلة من البشر، العسكري حالة عنصرية، الجيش عنوان الجدية الجيش يمكن أن يقوم بكل السلطات أو يحركها، إدماج الحكومة بالجيش، توهم الصلاحية بكل شيء، جيش الشعب تحول إلى شعب الجيش، ضمن صورة تأليه العسكر والجيش.

العسكر فوق السياسة لا تعنيهم مقولات السياسة ولا تداولها، وهم يملكون عداء للتصور الديمقراطي، خيال المعسكر وظله في التحول الديمقراطي، المعسكر في حالة الحرب الدائمة أو التجهز والإعداد لها، ذهنية الحرب الدائمة وذهنية الاستبداد، لا يجب أن تنسحب قواعد السياسة على المعسكر، بينما تنسحب قواعد المعسكر على السياسة. 

ومن ثم، هم الباحثون دائما عن مقولات الاستقرار والاستمرار لا التغير، مع التأكيد على لغة العلو والعتو والغطرسة. 

هي حالة عامة من عسكرة المجتمع للحياة المدنية تقوم على قاعدة الأمر والطاعة، وكأن المجتمع قد تحول إلى ثكنة عسكرية كبيرة، وكأن المؤسسة العسكرية صارت فوق الدولة تعبر عن مصالحها من كل طريق، إنه زحف العسكر على كامل مساحات المدني والاجتماع السياسي.

في مشاهد الغلاء غير المحتملة، والإفقار، ووجود قطاع من الشباب بلا عمل، ومواصلة التعامل مع الشعب والمواطن بقدر هائل من الاستخفاف، ومطالبته بمزيد من التحمل، ومعايرته بأنه شعب فقير قوي، فإن أي شكوى منه حتى لو عبرت عن حالة فاض الكيل أو أنه غير قادر على مزيد من التحمل أو التأوه من ظلم مستمر. 

يأتي خطاب أحد اللواءات السابقين الذي يقوم بتبكيت الشعب، وبمنطق "احمدوا ربنا"، ويعتبر الشكوى "قلة حياء"، "ادفع جوع، ادفع قلة عشا، عشان نعدي وإلا مش هنلاقي مصر".

هذا خطاب العسكر "نجوع نجوع .."، لا يلقي بالا لهؤلاء الذين ينتحرون في المجتمع المصري حين لا يستطيعون سد احتياجاتهم الأساسية، أو سد احتياجات أولاده. 

وهذا ينتحر لطول فترة بطالته الإجبارية، والجنرالات الذين يتحكمون لا يأبهون، فقط "بلاش قلة حياء"، "كله تمام"، حتى لو فقدت روحك أو كيانك، و"تحيا مصر".

يقول أحمد مطر:

نموت كي يحيا الوطن.. يحيا لمن؟
نحن الوطن!
إن لم يكن بنا كريما آمنا
ولم يكن محترما.. ولم يكن حرا
فلا عشنا.. ولا عاش الوطن !