شهادات الناجين من معتقلات الأسد المرعبة متشابهة، كلها تتفق على استمتاع السجان بآلام المعتقلين، وابتكاره لفنون جديدة في التعذيب، كلها تشهد بضيق المكان والحرمان من النوم والطعام، وتفشّي الأوبئة والتكفير بشهادة الاله الرئيس! ومعظم الناجين معتقلون من أجل صورة على هاتف جوال، أو على الهوية، أو رهائن مثل رشا شربتجي، التي صارت رمزا عالميا ومع أن قصتها مؤلمة وشجية ودرامية، فهي محظوظة، وحظها هو زوجها الذي عرف كيف يدافع عنها.
بمناسبة "الكثافة السكانية" في حظائر الأسد لتصدير الشهداء إلى الجنة، روى لي قاص سوري وسجين سابق، يساري التصنيف، أنه قبل الإفراج عنهم بشفاعات حقوقية دولية، التقى بهم إسماعيل الأسد من غير أن تكون له صفة رسمية، ولاطفهم واعتذار منهم عن سوء المعاملة، فتشجع صاحبنا وقال له: سيادتكم، لا مشكلة لدينا في الاعتقال، لكن البقرة الهولندية لها مساحة في زريبتها أكثر مما في زنزاناتكم الخانقة، فوعده خيرا، وما مواعيد عرقوب إلا الأباطيل.
الجلاد السوري الذي جاء بعد مرحلة الحركة التصحيحية لا ينتصر على الضحية إلا بالقتل، يظل يعذِّبه مطالبا إياه بالاعتراف، والضحية بريئة غالبا، وليس عندها ما تعترف به، سوى روحها، فتلفظها، فيرتاح الجلاد. الجلاد يظنّ أن خصمه يخفي شيئا، ويريده شفافا مطلق الطاعة. هذا أغرب جلاد عرفته سجون البشرية، لا أحد يعرف من أين له كل هذا الثأر والحقد.
والشهادات بالآلاف، وبعضها لا يمكن أن يروى لفظاعته وقبحه. صوّر لنا مسلسلا بقعة ضوء ومرايا إبداع الضباط السوريين في تعذيب مخدوميهم من جند الخدمة الإلزامية، التي توصف رسميا بخدمة العلم، وخدمة الجزمة أولى منها بالتسمية، منها مثلا: أمر الضابط وهو غالبا من القرداحة وما حولها، الجندي بدفع الحائط وكأنه عربة! وهو طلب يطلب عادة من الأغرار في بداية انتسابهم إلى الجيش المقاوم للتسرية عن الضباط، الذين يفكّون ضجرهم بأوامر اجتراح المستحيلات ، وأن يعاقب ضابط "خدامه" من الجنود، بإفراغ مسبح المعلم، وفّهِ التبجيلا، بملعقة طعام! أو أن يأكلوا بصلا بقشره، وبعض القشر يشبه ورق السلوفان، وأن يحفر بئرا بإبرة.. وهكذا!
روى لي صديق من القصير المعروفة سابقا مثل درعا بالولاء للنظام، ثم كان أن ثارت مع الثورة، أنه خدم في صيدنايا، وعرف معتقل ماروني أنه من القصير، فكان يمشي في ساعة التنفس بجانب الجندي، ويرجوه همسا أن يتصل بأهله، ويخبرهم بمكان وجوده، ويبشِّره بأنهم سيطمرونه بالمال، لكن الجندي لم يجازف، من عجائب المقادير أنَّ صديقي الآن معتقل، مثل السجين الماروني، ولا أحد يعرف مصيره؟
أمس قرأت شهادة جمال الشعراوي، وهو رجل أعمال أردني كان يعمل في سوريا، أفرج عنه بعد 17 شهرا من الاعتقال، بتهمة صور في الحاسوب، خرج بالرشوة، شهادته مطابقة لكل الشهادات: تعذيب بالجملة، المرض، التجويع، سردنة المعتقلين، فعدد المساجين في غرفة صغيرة 120 معتقلا، يقضي المعتقل سنوات من غير أن يحظى بنعمة الاضطجاع على جنبه، وكان محظوظا بنصيحة، وهي أن ينسج للجلاد قصصا عن الإرهاب، فجلادهم فيه صفات من شهريار، ويحبُّ الحكايات الإرهابية، وعلى المعتقل أن يكون صاحب خيال بارع، ويحفظ قصصه، ويطوِّرها تحقيقا بعد تحقيق.
أصيب الشعراوي بأزمة قلبية وقصور كلوي واستسقاء وارتفاع الضغط، وأجرى عملية لإزالة غضروف من رجله نتج عن القرفصاء الإجبارية.
أسوأ ما في الأمر كله، أنَّ جرائم النظام صارت خبرا من النوافل في نشرات الأخبار، فقد نجح الرجل الأبيض بتطبيع العالم واستئناس الأسد. هناك ناج سوري معروف اسمه مازن الحماده، يتنقل بين العواصم الأوربية ليروي مأساته للتلفزيونات، فيبكي عليه باكون. يروي ميشيل كيلو أنه عندما روى قصة العصفور الشهير للحضور، بكوا كلهم. الرجل الأبيض لا يمانع أن نكون فلما هنديا، وها قد منح "الخوذ البيض" جائزة الأوسكار.
أمس قصف الأسد الوعر، بعد عملية الملاك الطاهر، وحبيب الملايين حسن دعبول، بمئات الغارات على المناطق المحاصرة، وكأن سوريا أحجار لعبة بولينغ.
أحسن ما نطمح له هو أن يصير الأسد مثل ماركة دخان عالمية، يحذِّر منه العالم ويرفع الضرائب عليه، لكن الدخان أكثر البضائع العالمية تسويقا، بل عبره انتشرت الحضارة الأمريكية.
كان يدخنون الأسد، وسيدخنونه من غير فلتر..