المتتبع للأداء السياسي للسلطة
الفلسطينية وعلاقتها مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، في ما يرتبط بعملية التسوية ومستقبل الصراع مع الكيان
الإسرائيلي، يلحظ أن كل خطوة كانت تقدم عليها هذه السلطة غالباً ما تكون في الوقت الضائع، بعد أن تصبح هذه الإدارة غير قادرة على التأثير وتسعى لإنهاء فترتها بمواقف "بطولية" لا تعدو كونها استعراضاً هوليودياً.
نقول هذا الكلام وقدر رأينا على سبيل المثال كيف عوّلت قيادة السلطة الفلسطينية لثمانية أعوام على إدارة أوباما الديمقراطية؛ التي تشمل امتدادا لإدارات أمريكية استخدمت حق النقض الفيتو لصالح الاحتلال أكثر من 40 مرة، ومنعت خلال فترتها صدور أي قرار يدين الاحتلال وممارساته، في حين اكتفت قبل رحيلها بامتناعها عن التصويت فقط على قرار يدين الاستيطان.
مع قدوم كل إدارة أمريكية جديدة كانت الوعود تلو الوعود تقدم للقيادة الفلسطينية، ليكتشف الفلسطينيون في الوقت الضائع أنها مجرد أوهام وشراء للوقت، وأن هذه الإدارة لم تكن أفضل من سابقتها إن لم نقل أسوأ، وهو الحال الذي قد ينطبق على حال الإدارة الأمريكية.
وفي حال تأكدت معلومة رفض دونالد
ترامب التواصل مع رئيس السلطة الفلسطينية
محمود عباس، بينما يستقبل رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، فيمكن القول إن شكل التعامل الأمريكي في المرحلة القادمة مع القضية الفلسطينية أصبح واضحا أكثر من أي مرحلة سابقة.
ولعل قائلا يقول إن في هذه النظرة الأمريكية إلى القضية الفلسطينية إيجابية؛ يمكن تلخيصها بإتاحة المبرر للسلطة الفلسطينية بالتخلص من الوصاية الأمريكية، والتحرك بعيدا في إطار أدوات جديدة اعتمادا على "أصدقاء جدد" يدعمونها في حراكها الدبلوماسي.
غير أن الزيارة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية ماجد فرج إلى واشنطن، ولقاءه بمسؤوليين أمنيين، يثيران تساؤلات حول جدية القيادة الفلسطينية في التخلص من الضغط الأمريكي، بل تساؤلا أعمق بشأن النافذة التي يرغب ترامب في النظر من خلالها إلى طبيعة الصراع مع الاحتلال، وهي النافذة الأمنية، وبالتالي المصلحة الإسرائيلية أولا؛ إذ طالما كان الإسرائيليون يقدمون الأمن على غيره من المجالات في جولات التفاوض مع السلطة الفلسطينية، وشهدنا كيف أنه وفي ظل "أشد العلاقات ترديا" بين قيادة السلطة والحكومات الإسرائيلية بقي التنسيق الأمني حاضرا.
في ضوء ما سبق وأمام انسداد الأفق السياسي، تجد قيادة السلطة الفلسطينية نفسها أمام لحظة حاسمة ومسؤولية تاريخية في التعاطي مع مقدمات المرحلة القادمة التي تتشكل في ضوء إدارة أمريكية لا يمكن التنبؤ بقراراتها، ويمين أوروبي يلوح في الأفق، وانشغال دولي وإقليمي بصراع سيغير وجه المنطقة.
ولذا، فعليها قبل كل شيء التخلي عن عقلية الانتظار والترقب والركون إلى ما سيتشكل في قادم الأيام، والعملُ على وضع سيناريوهات للتعامل مع ما ستفزره التغيرات المستقبلية.
وعلى افتراض أن القيادة الفلسطينية الحالية تعمل وفق هذا التصور، فلا يمكن أن تجد أمامها إلا ثلاثة سناريوهات يمكن لها أن تعمل ضمن واحد منها أو محاولة الإدماج بين أكثر من سيناريو، مع ما تشكله هذه الخطوة من تناقض وتنافر.
السيناريو الأول: هو الاستمرار في المراهنة على الإدارة الأمريكية الحالية، وهذا ينطبق عليه قول المتنبي:
يا أعدلَ الناسِ إلا في معاملتي *** فيك الخصامُ وأنت الخصمُ والحكم
وهي مراهنة ربما تكون أشبه بالاستسلام للأمر الواقع، في انتظار تشكل عوامل جديدة تغير من نظرة وآلية تعاطي هذه الإدارة مع القضية الفلسطينية، وأهمُّ إفرازات هذا السيناريو مزيد من التصعيد الإسرائيلي في ملفات الاستيطان وتهويد القدس وفرض الوقائع على الأرض، وصولا إلى عدوان جديد على قطاع غزة.
السيناريو الثاني: ربما تلجأ القيادة الفلسطينية إلى خيار تفعيل الدور الروسي، مستغلة اندفاعة موسكو إلى المنطقة ورغبتها في ملء الفراغ الذي تركته إدارة أوباما؛ وتبدو إدارة ترامب غير معنية في ملئه، على الأقل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ولذلك كان لافتا الاجتماع الذي نظمته موسكو الشهر الماضي وتجاوز في طرحه موضوع المصالحة الوطنية، ومن نتائج هذا السيناريو تعزيز النظرة السلبية لدى الإدارة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، وربما إزعاج أطراف أوروبية حاولت الظهور دائما بمظهر الصديق للفلسطينيين والحريص على استئناف مفاوضات التسوية.
السنياريو الثالث: الاقتناع العملي بفشل المراهنة على خيار التسوية ضمن هذه المعطيات بشكل خاص، والمراهنة على دور للقوى الدولية بشكل عام، ما يترتب عليه العودة إلى الداخل لاجتراح حلول وخيارات جديدة تقلب الطاولة وتخلط الأوراق، من خلال إتمام ملف المصالحة، وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل"، ووقف التنسيق الأمني بالتزامن مع تصعيد الحراك في المحاكم الدولية لمقاضاة الاحتلال في ملفات الاستيطان وجرائمه في غزة والضفة.
سيكون هناك بلا شك ردات فعل عنيفة للاحتلال فيما لو لجأت السلطة الفلسطينية إلى السيناريو الثالث، وقد يكون من بينها إنهاء السلطة الفلسطينية برمتها، وإعادة احتلال الضفة الغربية، وتصعيد سياسة الاستيطان بشكل صارخ، غير أن نظرة منصفة إلى واقع الحال تظهر أن ما تلوح به "إسرائيل" واقع فعلا منذ سنوات، عدا عن أن مؤشرات قادم الأيام لا تقل سوءا عن الحاضر إن لم يكن القادم أسوأ.