يعيش نحو مليوني فلسطيني في قطاع غزة الذي تحكمه حركة حماس تحت وطأة حصار تتواطأ مصر مع إسرائيل على تنفيذه بدرجات متفاوتة وفق معادلة تتحكم فيها إسرائيل تهدف بالأساس إلى إضعاف المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس وردعها، الأمر الذي ينعكس بالنهاية على فلسطينيي غزة الذين ليس لديهم أي خيار آخر للتواصل مع العالم الخارجي لتلبية احتياجاتهم الحياتية.
وإذا كان المعبر يشكل مأساة إنسانية، فإن حصاره يأتي ضمن معادلة سياسية وأمنية تجعل حماس ومصر في حالة عدم وفاق منذ تسلم الأخيرة قطاع غزة في 2007، إذ كانت ولا تزال اعتبارات العلاقة مع الاحتلال والمطالب الأمنية له هي الحاكم في التعامل المصري مع هذه الحركة، ولذلك اتخذت السلطات المصرية مواقف سلبية من المقاومة الفلسطينية في الاعتداءات التي شنتها إسرائيل على غزة في الأعوام 2008 -2012 - 2014.
وبعد معركة العصف المأكول عام 2014 تعاون نظام الانقلاب مع العدو الإسرائيلي في حصار قطاع غزة ضمن سياسة تهدف لمنع المقاومة من الحصول على أسلحة لمواجهة أي عدوان إسرائيلي ولمعاقبة حماس التي صمدت ولم تنكسر في هذه الحرب ولدفع الفلسطينيين للثورة عليها باعتبار أنها المتسبب في معاناة أهالي القطاع.
علاقات معقدة
وطوال نحو تسع سنوات، حكمت علاقة مصر بحماس شبكة معقدة من الاعتبارات يقف على رأسها الاستجابة للمطالب الأمنية والسياسية الإسرائيلية التي تهدف لردع هذه الحركة والحيلولة دون امتلاكها القوة المناسبة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
وزاد من حالة عداء النظام المصري لحماس تصنيفه لها ضمن تيار الإسلام السياسي الذي تحاربه، وتخوفها من تأثير نجاحات الحركة في مقاومة المحتل في رفع سوية ودافعية الإخوان المسلمين في مصر للمواجهة السياسية مع نظام الانقلاب بقيادة عبد الفتاح السيسي، هذا فضلا عن الإشعاع الذي تبثه هذه الحركة على كافة حركات الإسلام السياسي في المنطقة والتي تواجه حربا شرسة في بلدانها، الأمر الذي استدعى تشكيل رباعية عربية لشل قدرة هذا التيار عن استعادة مبادرة الثورات العربية التي أسقطت بعض انظمة الحكم العربية أو شكلت تهديدا لها.
ويضاف للعوامل السابقة التي تضبط علاقة مصر مع حماس، المسؤولية التاريخية لمصر عن قطاع غزة الذي تعتبره ساحة خلفية لها وتحكمها في مخرجات القرار الفلسطيني الرسمي بما يتماشى مع عملية التسوية في المنطقة.
ومن هنا، فإن رفض حماس لعملية التسوية وإصراراها على المقاومة يعرقل مساعي مصر لإنفاذ عملية التسوية السياسية بالتعاون مع قيادة السلطة الفلسطينية. ولئن واجه هذا البرنامج عقبة الإصرار الإسرائيلي على الاستيطان وطلب اعتراف الفلسطينيين بما يسمى يهودية إسرائيل، فإن سقف مصر والرباعية العربية – الذي تضغط على السلطة الفلسطينية للقبول به- بات يتعامل مع المطالب الإسرائيلية مقابل حكم ذاتي فلسطيني على أجزاء من الأرض الفلسطينية ضمن شكل دويلة فلسطينية هزيلة.
وواقع حال السياسة المصرية أنها تضع مطالبها السياسية والأمنية في كفة والمصالح الحياتية والمطالب الإنسانية لفلسطينيي غزة في الكفة الأخرى. وهذه حسبة لا يقبلها منطق ولا تستقيم أمام المسؤولية المصرية تجاه شعب فلسطين.
معادلة جديدة
إلا أن معادلة العلاقة بين نظام الانقلاب وحماس حدث عليها تغيير أساسي مؤخرا، ذلك أن الجيش الذي شن حملة دموية على الإخوان لتكريس هيمنته بالقوة بدأ يواجه معضلة أمنية كبيرة مع المسلحين في سيناء الذين أذاقوا قوات الجيش المصري أصناف الهزيمة مع التفجيرات التي تستهدفهم وتوقع بهم الخسائر بشكل شبه يومي. ووصل الأمر إلى أن بدأ الجيش يفقد سيطرته بالكامل في بعض المناطق في سيناء ومنها رفح المصرية المحاذية لرفح الفلسطينية في قطاع غزة.
وفي ظل تقديرات مصرية أن هؤلاء المسلحين يتخذون من غزة ملجأ لهم، توجهت حكومة الانقلاب لحماس طلبا لتعاونها في ملاحقة متطرفي داعش وغيرها ووضعت خلف ظهرها الاتهامات -التي لم تكن تستند إلى أي دليل- ضد حماس بالتدخل في الساحة المصرية وتدريب عناصر من الإخوان للإطاحة بنظام العسكر!
والأهم من هذا أن مصر وضعت جانبا خلافاتها السياسية مع حماس ولو مؤقتا لمحاولة استدراجها للتعاون الأمني معها في مواجهة المسلحين، الأمر الذي أعاد ترتيب الأوراق في العلاقة المعقدة بين الطرفين وسمح بانفراج جزئي عبر إطالة فترات فتح معبر رفح في الاتجاهين مع الإبقاء على الضوابط والمعايير الأمنية.
مطالب مصرية
وفي هذا السياق، زار وفد قيادي من حماس برئاسة إسماعيل هنية القاهرة أملا في رفع الحصار عن غزة، فواجهته مصر بثلاثة مطالب: تشديد الرقابة على الحدود بين غزة ومصر، ومنع العناصر المتطرفة من اتخاذ مأوى لها في غزة، وتسليم المطلوبين من المسلحين والذين أصبحوا بقبضة الأمن في غزة.
ولاحقت حماس العناصر المتشددة في غزة خصوصا أنهم أعلنوا الحرب عليها وباتوا يحرضون في إعلامهم عليها، ويتهمون قيادتها بالكفر وموالاة الأعداء، كما أنهم رفضوا التقيد بالتهدئة مع إسرائيل والتي التزمت بها كل الفصائل الفلسطينية، الأمر الذي يهدد بإعطاء المبررات للعدو لضرب غزة وربما شن حرب عليها.
إلا أن هذه الحركة رفضت في حوارات سابقة مع مصر تسليم هؤلاء المتشددين، لما ينطوي عليه ذلك من خطورة بالغة، وقد يؤدي إلى استعداء هذه التنظيمات ضد حكم حماس وما يخلقه ذلك من تعقيدات أمنية وعواقب تجد حماس أنها في غنى عنها.
وترى حماس أن استجابتها للمطلب المصري قد يوقعها في فخ ربما يكون نصب لها ويتمثل باستدراجها إلى حرب مع المتشددين بما يؤدي لإضعافها وتهيئة الفرصة لإسرائيل للانقضاض عليها.
كما أن القاهرة لا يتوقع أن تتخلى عن موقفها السلبي من حكم حماس، وستظل تسعى للإطاحة بها لأنها ستظل عامل إشعاع للإسلام السياسي ليس في مصر لوحدها وإنما في المنطقة العربية بأسرها، كما أن علاقة القاهرة مع العدو الإسرائيلي ستظل تملي عليها موقفا سلبيا من حماس.
وفيما لا تزال مسألة التسليم بين حماس ومصر بين أخذ ورد، فإن حماس سبق وباشرت إجراءات من شأنها الحد من تسلل المتشددين لغزة أو استخدامهم لها كقاعدة لاستهداف القوات المصرية، وهو موقف أكدت وتؤكد عليه دائما.
مقاربة سياسية لا أمنية
وبصرف النظر عن المقاربة التي سيتوصل لها الطرفان في مواجهة المسلحين، فإن استمرار حصار غزة لا يخدم الأمن القومي المصري الذي تقول القيادة المصرية إن غزة هي بوابته، فانكسار غزة هو هزيمة لمصر كدولة أمام الاحتلال، وضعف حماس في غزة يغري التنظيمات المتشددة بها التي ستشكل في النهاية تهديدا مضاعفا لمصر بالإضافة إلى التهديد الموجود أصلا في سيناء.
إن الأمن الإقليمي الحقيقي لمصر لا يمكن أن يتحقق إلا بالمصالحة الداخلية مع الأطياف السياسية والعمل على إيجاد حل سياسي لسيناء بدلا من اعتماد الخيار الأمني الذي يزيد من تسعير حالة التشدد.
كما أن التعاون مع حماس مطلوب في مواجهة إسرائيل وليس الضغط عليها من خلال إغلاق معبر رفح معظم أيام السنة أملا في دفع الشعب الفلسطيني للثورة عليها، وتهيئة الأجواء لحل سياسي لا تسعى له إسرائيل أصلا.
لا بد للقيادة المصرية من إعادة النظر في اعتبارات العلاقة مع المقاومة الفلسطينية وإيجاد حالة من التوازن بينها وبين السلطة باتجاه رعاية مصالحة تضع في مقدمة اعتباراتها اعتماد برنامج المقاومة والتمثيل العادل للفصائل في المنظمة والتوافق على حكومة وحدة فلسطينية، ففي هذا قوة للفلسطينيين وقوة لمصر وللعالم العربي في مواجهة إسرائيل.