بداية لا بد من الدعاء بالرحمة لضحايا جريمة أورتاكوي الإرهابية التي هزت مدينة اسطنبول فجر الأحد الماضي، طلب تمني الشفاء العاجل للجرحى والمصابين الصبر والمواساة لذويهم، والتأكيد على أنه لا يجب لوم الضحايا بأي شكل من الأشكال، ولا يمكن انتقادهم خاصة العرب منهم على اختلاسهم للحظات الفرح والسعادة وسط السواد والغم المحيط بهم من كل حدب وصوب، وبالطريقة التي يرونها مناسبة، وبانسجام تام مع حقهم الطبيعي والحرية الشخصية فى ممارسة حياتهم كما يشاؤون دون أن يتلقوا العقاب أو حتى الانتقاد على ذلك.
المكان والزمان لا يمثلان كذلك ذريعة أو مبرر لتنظيم داعش لتنفيذ جريمتهم بإسطنبول، ولا بأي مدينة أخرى. والتنظيم كان أصلاً قد استهدف مؤسسات منشآت متعددة في أماكن مختلفة من العالم، بما في ذلك أماكن العبادة، وحتى ملاعب كرة القدم والتلهي أو النقاش بقصة المكان يخدم التنظيم الإرهابي، بالتأكيد يحرف الانتباه ليس فقط عن بشاعة الجريمة، وإنما أيضاً عن أهدافها التي لا تقل بشاعة.
العملية الجريمة لا تختلف جذرياً عما نفذته داعش من عمليات في أوروبا، وفي إسطنبول تحديداً لكنها تمثل بالتأكيد ارتقاء درجة في التخطيط والتنفيذ، ولكنها تبقى دائماً في نفس السياق الداعشي التركي والدولي سياق العمليات المدوية الصاخبة مع انتقاء لافت للزمان والمكان أيضا.
كما تقدم فإن عملية أو جريمة أورتاكوي الإرهابية تشبه جريمة مسرح باتاكلان في باريس العام الماضي، أما تركيا فهي شبيهة إلى حد كبير بعملية مطار أتاتورك في شهر حزيران/يونيو الماضي لجهة الزمان المكان والشكل، وطبعاً الأهداف التي تسعى داعش لتحقيقها جراء حربها المفتوحة مع تركيا.
الزمان في عملية المطار كان شهر حزيران موسم الصيف وبداية الإجازات الصيفية والموسم السياحي الصيفي، والمكان أحد أكثر المطارات والأماكن شهيرة واكتظاظاً في تركيا والعالم والتنفيذ مشابه أيضاً لجهة استخدام السلاح الآلي وإطلاق النار العشوائى، ولكن في سياق انتحارى أي بدون استراتيجية خروج مع الانتشار الأمني الكثيف في المطار، ورد فعل الجيد لرجال الشرطة وسرعة تصرفهم ما قلّل من الخسائر البشرية وحتى المادية إلى حدّ كبير.
عملية أورتاكوي أتت في نفس السياق زمان لافت ليلة رأس السنة، ومكان لافت أيضاً حيث أحد أكبر المطاعم في اسطنبول، وتخطيط وتنفيذ مماثل لعملية المطار مع إطلاق نار عشوائي وجريمة استعراضية لقتل أكبر عدد ممكن من الحضور، وبالتالي جلب أكبر قدر ممكن من الاهتمام السياسي والإعلامي.
جاءت عملية أورتاكوى إذن في نفس السياق الداعشي، ولكنها تمثل ارتقاء درجة في عمليات التنظيم بتركيا تحديداً - رغم أنها كما قلنا تشبه عمليات باريس - لأن المنفذ كان أكثر احترافية وخبرة وواضح أنه درس المكان جيداً، وامتلك حتى استراتيجية أو خطة خروج مع برودة أعصاب ورباطة جأش والهروب عبر التخفي مع الضحايا وغالباً عن طريق مياه البوسفور ما يعني أنه يجيد السباحة، وربما انتظره أحد في المياه ما يعني أننا أمام خلية أو عمل جماعي، وليس عمل فردي أو ذئب وحيد، ولذلك لم أستغرب الأنباء عن علاقة ما له مع الخلية التي خططت ونفذت عملية مطار أتاتورك منذ شهور.
الارتقاء درجة في العمليات، ومع تنفيذ أكثر صخباً ودموية يأتيان طبعا في سياق الحرب المتصاعدة بين تركيا وأنقرة، كما تعبيراً عن المأزق الذي يعانيه التنظيم في معقله أو بالأحرى معقليه في العراق وسورية.
الحقد أو الذهنية الموتورة تجاه تركيا واسطنبول لا يندرجان فقط في السياق الفكري وتقديم المدينة والبلد نموذج ناهض عصري منفتح في مقابل النموذج المنغلق والمتخلف، الذي يطرحه التنظيم، وإنما لأن أنقرة وجهت له ضربة رمزية وأمنية كبيرة في معقله السوري طردته من بلدة دابق بما تحمله من رمزية حسب أدبيات التنظيم نفسه وطرده من الباب ثاني أحد معاقله في سورية مسألة وقت فقط، والأمر نفسه يمكن قوله عن الرقة الذي يبدو تحريرها أيضاً مسألة وقت، وغالباً على يد الجيش السوري الحرّ، والجيش التركي، ما ينزع أسلحة كثيرة فقهية وفكرية سياسية وإعلامية من يد التنظيم.
الذهنية المتوترة المهووسة المتشنجة تجاه تركيا تأتي أيضاً لأن أنقرة أنهت عملياً دولة التنظيم في سورية وطردته من مناطق حلب وشمال سورية بشكل عام، وكما قلنا سابقاً هذا أتى ضمن نموذج جرابلس؛ النموذج الذي لا يدمر المدن لا يتضمن تطهير عرقي وتغيير ديموغرافي، والأهم أنه لا يخلق واقع يجعل التنظيم جذاباً أو حتى خيار سيء قياساً للخيارات الأسوأ المتعلقة بالنظام أو بي كاكا السوري.
التنظيم يعرف كذلك أن سقوط عاصمته في الرقة مسألة وقت، وأن تركيا القوة المؤهلة والقادرة الوحيدة على إسقاطه ودحره في عاصمته، والمعركة الكبرى لا يستطيع الصغار مثل بي كاكا السوري تنفيذها، وبالطبع فإن النظام وبقاياه خارج الصورة ومع الرغبة الدولية العارمة لتحرير الرقة وهزيمة التنظيم فإن نموذج جرابلس هو وحده المناسب الصحيح، وحتى الواقعى قياساً للخيارات السيئة الأخرى وغير الناجعة أو المضمونة.
يجب الانتباه جيدا الى حقيقة ان تركيا وحدها تخوض معركة مع ثلاث تنظيمات إرهابية، وحتى أربعة، وتبدو وكأنها تركت وحدها في المعركة مع دعم يبدو إعلامي أو نظري إلى حد كبير فقد تخلى عنها التحالف الدولي الغربى، واشنطن تحديداً في معركة الباب رغم اليقين بمركزية ومفصلية المدينة في إسقاط ودحر داعش.
السلطة الديموقراطية المنتخبة في تركيا تتعاطى مع المعركة بوصفها حرب استقلال جديدة، هي تقدم روايتها الفكرية التاريخية السياسية الاقتصادية الاجتماعية للناس،واضح طبعاً أن ثمة قبول أو تأييد واسع مع فهم أو استيعاب للدلالات التاريخية المكانية الزمانية، هذا لا ينتقص بل يزيد ويضاعف المسؤولية عليها، ويحتّم عليها بذل مزيد من الجهود السياسية والديبلوماسية لحصد التفهم، والدعم الدولي والإقليمي، ولا يقل عن ذلك مراجعة الإجراءات الأمنية، وأوجه القصور استخلاص العبر الشخصية والمؤسساتية من العملية الأخيرة، ووضع تكتيكات وآليات ووسائل جديدة لمواجهة التطور في عمل التنظيمات الارهابية داعش جماعة غولن وتنظيم بي كاكا بشقيه وترتيب الأولويات بما يكفل تقليل الخسائر والأثمان ومع امتلاك الارادة العزم والعناد يبدو الانتصار حتمى ويكاد يكون مفروغ منه أيضاً.