كتاب عربي 21

خارج دولة الفيسبوك

نزيه الأحدب
1300x600
1300x600
كنت بحاجة لأن أفتح ذات مساء في المقهى علبة سجائر جديدة حتى أنتبه إلى أنها الثالثة في يوم واحد، فأتخذ قرارا حاسما عقابا لنفسي - هكذا فكرت حينها - لأنني لم أنضبط ضمن معدل العلبة الواحدة في اليوم، أي العشرين سيجارة في ساعات التدخين العشر من حصص الليل والنهار. توقفت في اليوم التالي عن تحميص رئتَيّ بعد عشرين عاما من البلاء اللذيذ، واكتشفت بعدها أن التدخين الذي هو ممتع بذاته، يخطف لونا من قوس الحياة السليمة، لن يستعيده كل منتسب لنادي أصدقاء "فيليب موريس" إمبراطور النيكوتين في العالم.

قبل أقل من شهر كنت مواطنا في دولة الفيسبوك العظمى أعيش فيها ليل نهار دونما انقطاع، أشارك سكانها تفاعلاتهم مع ما يجري في الإقليم والعالم، وأتعارف على أرواح بعضُها يأتلف وبعضها يختلف، أتلقى الرسائل وأرد عليها، أؤيد وأعارض وأتضامن مع قضايا أنا متضامن معها أصلا خارج الفيسبوك وأحاول أن أضيء عليها باستمرار في محيطي، لكن لعبة التفاعل اللحظي مع ما ينشره المرء في وسائل التواصل الاجتماعي أكثر حيوية وبساطة من العمل الإعلامي التقليدي، والفرق بينهما كالفرق بين التمثيل الدرامي والسينمائي والتمثيل المسرحي الذي يتلقى ردة فعل الجمهور مباشرة من القاعة إلى الخشبة.

لا أستطيع أن أقدر عدد ساعات وجودي اليومي على منصات الإعلام الجديد من فيسبوك وواتساب وتويتر وغيرها، لأنني كنت بشكل دائم "أونلاين" وإذا أخذت راحة لساعة أو أقل يستطيع أي شخص خرقها بأجراس مؤشرات الهاتف بغض النظر عن أهمية الشخص ومواضيعه.
 
لقد عاينت في الصفحات الإلكترونية حقائق ساذجة للغاية لكنني تقبلتها لأنه لا أحد يستطيع إلغاء مساحة العوام الواسعة بل الأوسع في حياتنا، فالأوزان هنا تختلف عنها في الواقع. الغلبة على الصفحات الزرقاء للاستعراض والبريق، ولو تزامنت جنازة نيلسون مانديلا مثلا مع إفراج ميريام كلينك عن صورة مثيرة جديدة لها فإن حصاد صورة كلينك من المتابعات والتداول والإعجاب سيتفوق بلا شك على الحدث الأول بأضعاف.

مؤخرا ومع ازدياد ساعات عملي وجدت نفسي محتلا بالكامل لصالح هاتفي المحمول ورناته التي لا تنتهي، لا أستطيع أن أنهي عملا دون عشرات الإطلالات المتلاحقة على الجديد فيه، وعندما أنقطع لا إراديا عن الشبكة العنكبوتية لعطل في الهاتف أو الإنترنت أجد نفسي مشلولا جزئيا كمن فقد شيئا من أطرافه وتركيزه.
 
لذلك ولأنني تجاوزت المألوف في حجم الالتصاق بالهاتف، قررت قبل أيام قليلة أن أعاقب نفسي - هكذا أفكر الآن - فجمدت حسابي بالفيسبوك وهجرت حسابي على تويتر. وأولى انطباعاتي هي أن العالم الافتراضي الرائع سرق من حياتي الواقعية شيئا من واقعيتها وتوازنها وزخم إنتاجيتها وأنا الآن أستعيدها جزئيا، فالإعلام الإلكتروني سيبقى متداخلا في العمل أتركه فيه لأعود بعده إلى العالم المتوسط الحداثة حيث السينما والتلفزيون، ولا شاشة جيب تضيء فجأة لتتعجرف على الشاشتين الكبيرة والصغيرة... 

هكذا أنا مرتاح لكن لا أعرف إلى متى، فالإقلاع عن جلسة القهوة والتدخين أسهل من معالجة إدمان العصابات الإلكترونية.
0
التعليقات (0)