من المفروض أن يجبر تقرير لجنة الشؤون الخارجية في
البرلمان البريطاني، وزارة الخارجية على إعادة تقييم الطريقة التي تفسر من خلالها
الإسلام السياسي.
لسنوات عديدة كانت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني هيئة معتبرة، لكنها للأسف ظلت كيانا عديم الفاعلية، ونادرا ما طرحت أسئلة صعبة أو محرجة، وقلما أجيب عن أسئلتها.
كانت ترى دورها ينحصر في تبرير وتبييض سياسة الحكومة، وتتكون في العادة من تشكيلة من المتملقين من أعضاء البرلمان القدامى الذي يتطلعون إلى الحصول على أوسمة الفروسية، ولم يحدث أن تسببت عن علم بإحراج أي وزير للخارجية أو التسبب له بموقف صعب.
تغير هذا الحال قبل 18 شهرا، عندما انتخب كريسبين بلانت رئيسا للجنة. وبلانت هذا، الذي كان ضابطا في الجيش قبل أن يصبح عضو برلمان عن حزب المحافظين، يجد متعة في وضع أصبعه في أنفه حيثما وجد أنه غير مرحب به.
فعلى سبيل المثال، في شهر أيلول/ سبتمبر، نشرت لجنته تقريرا لا هوادة فيه عن تدخل ديفيد كاميرون في ليبيا.
وفي مطلع هذا العام، أعلنت لجنة بلانت أنها بصدد فتح ملف موضوع أكثر تعقيدا، ألا وهو ملف الإسلام السياسي والإخوان المسلمين. وفي هذا اليوم، الاثنين، نشرت اللجنة نتائج تحقيقها.
تنصل فظ
ليس بإمكاني المبالغة في التأكيد على أهمية تقريره الجديد الرائع. فهو يبلغ حد التنصل المباشر والكامل من أيديولوجية المحافظين الجدد التي هيمنت على التفكير البريطاني والأمريكي حول الإسلام والشرق الأوسط، منذ أن انتخب طوني بلير رئيسا للوزراء في عام 1997.
ليس لدى مذهب المحافظين الجدد وقت لحركات الإسلام السياسي، ولا حتى للحركات الديمقراطية. فهو يصر على الديمقراطية العلمانية الليبرالية، ويقسم العالم إلى أناس أخيار وأناس أشرار، ويصنف جميع الإسلاميين على أنهم أشرار.
في المقابل، يتعامل تقرير اليوم الصادر عن لجنة الشؤون الخارجية بشكل جدي مع الإسلام السياسي.
وعلى الرغم من أنه لم يخل من نقد لبعض أنماط التفكير داخل التيار الإسلامي، إلا أنه يقر بوجوب أن يكون للأحزاب الإسلامية دور في الحياة السياسية، ويبذل جهدا كبيرا في محاولة فهم ما هو الإسلام السياسي، وكيف يعمل.
يوم الأحد، جرى تسريب التقرير قبل صدوره رسميا، وبطريقة خبيثة، إلى إحدى الصحف. لا ينبغي لأحد أن يستغرب حدوث ذلك، فمقاربة التقرير النزيهة والمنصفة تشكل بحد ذاتها نأيا بالذات عن تيار المحافظين الجدد، الذي يتعمد وضع جميع أشكال الإسلام السياسي في سلة واحدة.
رفض نظرية "حزام نقل الأمتعة"
يرى المحافظون الجدد أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة وحزب الله والإخوان المسلمين وحزب التحرير، وغيرها من حركات، كلها تجليات متنوعة للظاهرة ذاتها: أي السياسة الإسلامية الثيوقراطية النزاعة نحو استخدام العنف.
ويعتبر المحافظون الجدد أن كافة تجليات الإسلام السياسي تشكل خطرا بسبب ما يسمونه نظرية "المصعد" أو "حزام نقل الأمتعة".
فمن وجهة نظر المحافظين الجدد، حتى الحركات الإسلامية التي لا تمارس العنف تعدّ خطيرة لأنها يمكن أن تؤدي إلى وضع المواطنين العاديين على طريق الإرهاب.
التقرير البريطاني حول "الإسلام السياسي": أهم النتائج
مثل هذا المعتقد، استقر في قلب التفكير البريطاني والأمريكي حول الإسلام منذ ما يزيد على عقد من الزمان. وذهب خبراء السياسة يطبقونه على السياسة المحلية كما على السياسة الخارجية: وهو يقع في الصميم من استراتيجية
بريطانيا الخرقاء المعروفة باسم "بريفينت" (امنع) لمكافحة التطرف، كما أنه يقع في الصميم من الحروب التي شنها في الخارج كل من بلير وكاميرون.
واحد من المقاطع الأكثر إثارة للاهتمام في تقرير الاثنين، هو ذلك المقطع الذي يتحدى وبشكل مباشر نظرية "حزام نقل الأمتعة"، حيث يرى أن الإسلام السياسي، وخلافا لما هو مفترض من أنه يشكل طريقا نحو التطرف العنيف، يمكن أن يعمل كواق ضد العنف السياسي. وفي هذا المجال يحسن بي أن أنقل ما ورد في شهادة ريفال سليمان ليبه، أمام اللجنة:
"إن الإقصاء الذي تمارسه الحكومات البريطانية المتعاقبة بحق القوى الديمقراطية داخل جماعات الإسلام السياسي يمنح فرصا ذهبية لقوى التطرف داخل الجماعات الإسلامية، التي ستستغل ذلك لإقناع الشباب وعامة الجمهور في البلدان الإسلامية بأفكارها المتطرفة وبنقدها اللاذع للقيم الاجتماعية في الغرب ولأنماط الحياة فيه. ينمو التطرف في العالم الإسلامي بشكل سريع نظرا لأن الأصوات المعتدلة يقع قمعها واضطهادها من قبل الحكومات المحلية والدولية على حد سواء".
الدقة مهمة
يصيب تقرير لجنة الشؤون الخارجية حينما يشير إلى أن الحركات التي تقع داخل تيار الإسلام السياسي تتعرض للتنديد المرة تلو الأخرى من قبل المجموعات العنيفة، مثل داعش والقاعدة، لأنها تشارك في العملية الديمقراطية. ويشير التقرير إلى أن دعاية داعش تقوم بشكل منتظم بتسويد سمعة جماعة الإخوان المسلمين، التي لا جرم ارتكبته سوى المشاركة في الانتخابات.
بالطبع، ثمة مفارقة هنا، وذلك أن الإخوان المسلمين وما يرتبط بهم من منظمات، حينما يشاركون في العملية الديمقراطية يتهمون من قبل الغرب بالسعي لاختراق المنظومة السياسية، ولكن في الوقت ذاته يقع التنديد بهم من قبل المتشددين والمتطرفين ويتهمون بالتفريط والتنازل. وبذلك، فلا سبيل أمامهم للفوز.
وتلاحظ لجنة الشؤون الخارجية أن الأحزاب الإسلامية تعكس الصفات والانشغالات المحلية بالقدر ذاته، وفي بعض الأوقات أكثر مما تنشغل بالنضال الأيديولوجي على مستوى العالم. فعلى سبيل المثال، يثير تقرير بلانت تساؤلات حول عبارة وزارة الخارجية البريطانية المثيرة للشفقة التي تقول فيها إن حركة حماس لا تعكس "إلا قليلا" النضال الوطني الفلسطيني.
مثل هذه الدقة في التمييز قد لا تكون في متناول القدرة الاستيعابية للمحافظين الجدد الذين ببساطة يرون الإسلام السياسي خطرا عالميا أحاديا ومصدر تهديد وجودي على الغرب. وهنا نستشهد بما قاله الوزير السابق مايكل غوف، من أن الإسلام السياسي "يتوسل إلى ذلك الجزء من الروح البشرية التي تنزع دوما نحو الثورة والعنف وتعظيم الذات من خلال عضوية الصفوة المختارة".
كثير من قراء صحيفة "ميدل إيست آي" حين يمر بهم هذا التصريح البشع للوزير السابق غوف (ولقد نقل عنه الكثير من مثل هذه التصريحات الفظيعة)، فإنهم يعتبرونه مختل العقل. الحقيقة المؤسفة هي أن مثل هذا الحديث السطحي والمغرق في الجهل، إنما يعكس نمط التفكير الجديد الذي هيمن على الحياة داخل مرافق الدولة البريطانية.
يعدّ تقرير لجنة الشؤون الخارجية تقريرا مهما جدا، لأننا هنا على الأقل لدينا كيان معتبر داخل المؤسسة البريطانية قد أخذ على عاتقه مهمة التصدي للأفكار المفجعة التي يتبناها تيار المحافظين الجدد.
وبناء عليه، فقد ق لنا أن نسأل: كيف برب السماء أمكن نشر هذا التقرير؟ يكمن جزء من الإجابة في حقيقة أن عضوية لجنة الشؤون الخارجية قد تغيرت.
الترجل عن الطاحونة
منذ سنوات وأعضاء البرلمان يوضعون داخل اللجنة بتنسيب من آليات الأحزاب التي ينتمون إليها، وكل ما عليهم هو أن يفعلوا ما يؤمرون به. لم يعد هذا هو الحال. ثلاثة من أعضاء حزب المحافظين في اللجنة (جون بارون وآدم هولوي وكريسبين بلانت) هم ضباط سابقون في الجيش ممن كانت لهم تجاربهم التي عركوا من خلالها العالم قبل أن يصبحوا أعضاء في البرلمان..
فقد خدموا في مناطق الحروب، ونتيجة لذلك فهم يفهمون أنه لا يمكن للمرء أن يقسم العالم إلى أناس أخيار وأناس أشرار كما يعتقد المحافظون الجدد وكما يفعلون. وهذه الفئة تمثل زمنا كان نواب البرلمان من حزب المحافظين فيه قد عركوا العالم وخبروه وفهموا كيف يعمل، وكانوا يشعرون بالفضول -وليس الحقد أو التحيز- تجاه الأديان الأخرى وأنماط الحياة المختلفة.
من المهم ملاحظة أن قلة قليلة جدا من المحافظين الجدد لديها أي خبرة في عالم الواقع. فهذا توني بلير وذلك ديفيد كاميرون، كلاهما لم تتجاوز خبرتهما في السفر قبل أن يصلوا إلى مواقعهم على رأس الهرم السياسي، التنقل في الصيف بين المنتجعات القريبة من البحر المتوسط.
النائب جون بارون، له قصة جديرة بالاهتمام. لقد صوت الرجل ضد الحرب على العراق، وهو أمر تطلب شجاعة أخلاقية من عضو في حزب المحافظين في ذلك الوقت، أي في العام 2003. كما أنه كان واحدا من خمسة عشر نائبا (والنائب الوحيد من حزب المحافظين) صوتوا ضد قرار ديفيد كاميرون التدخل في ليبيا قبل خمسة أعوام.
بالطبع، ثمة إجراءات جزائية تتخذ ضد من يكون على الحق في المسائل الكبرى. لم يسامحه أبدا مكتب المحافظين المكلف بحمل الأعضاء على الالتزام بسياسة الحزب، بشكل خاص، ولذلك لم يبرح موقعه في المقاعد الخلفية من البرلمان هو وبلانت وهولوي.
تستحق لجنة الشؤون الخارجية أن يشاد بها لما أنجزته من عمل مهم يمكن أن يكون له دوره في تشكيل الأجندة، الذي ينبغي أن يفرض على وزارة الخارجية البريطانية إعادة تقييم تفسيرها لظاهرة الإسلام السياسي.
ويمكن لهذا التقرير أن يقدم للحركات الإسلامية توجيهات مفيدة ومتينة حول أنجع السبل للاشتباك مع الغرب.
لو كنت بوريس جونسون (وزير الخارجية) لرحبت بهذا التقرير ولاستقبلته بالأحضان. وذلك أنه وفر لوزير الخارجية طريقة للتعامل مع الإسلام ومع الشرق الأوسط تتحرر من طاحونة الكابوس الأيديولوجي التي هيمنت خلال العشرين عاما الماضية. وأخيرا، ثمة أمل.
إلى جانب كل شيء آخر، لقد وجهت لجنة الشؤون الخارجية ضربة كبيرة لصالح العقل والمنطق.