أعلنت إثيوبيا في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، حالة الطوارئ، بعد عام من
الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية التي بدأها أبناء قومية الأرومو، ومن ثم تبعهم فيها أبناء قومية الأمهرا، ثاني أكبر القوميات الإثيوبية بعد الأورومو، إلا أن الجديد هذه المرة هو الاتهام الصريح من الحكومة الإثيوبية لمصر وإريتيريا بدعم المظاهرات الشعبية والمعارضة المسلحة. السؤال هنا ما مدى صحة هذا الاتهام؟ وإلى أين تتجه العلاقة
المصرية الإثيوبية؟
أسباب فرض حالة الطوارئ في إثيوبيا
الاحتجاجات الشعبية الإثيوبية بدأت ضد الخطة التوسيعية للعاصمة أديس أبابا حيث كانت تنوي الحكومة الإثيوبية اقتطاع بعض الأراضي من مناطق أوروميا لضمها للعاصمة أديس أبابا، وعارض سكانها تلك الخطة واعتبروها مصادرة لأراضيهم وتهجيرهم من مزارعهم الخصبة. وتحت ضغط الاحتجاجات، تراجعت الحكومة عن خطتها، وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي في أكثر من مناسبة عدم نية حكومته توسعة العاصمة على حساب المزارعين الأورومو. لكن في المقابل كانت الحكومة تمارس القبضة الحديدية وعمليات القتل والاعتقال ضد المعارضين لتلك الخطة، الأمر الذي زاد من حدة الاحتجاجات حتى أخذت طابعا عرقيا، كما أن الاحتجاجات وجدت الدعم السياسي من الحراك السياسي المعارض في الخارج الذي تقوده مجموعات كان بعضها جزءا من الحكومة الإثيوبية، بما في ذلك قيادات إدارية حكمت إقليم أوروميا، مهد الاحتجاجات.
لم تتوقف الاحتجاجات في إقليم أوروميا فحسب، بل توسعت وشملت مناطق الأمهرا وغيرها، وصاحبتها موجة من العنف دفعت الآلاف من أبناء قومية التجراي إلى الخروج من مناطق الأمهرا، وعبر بعضهم الحدود السودانية، كما أن إقليم أوروميا شهد مزيدا من القتلى، وفي المرة الأخيرة سقط عدد من القتلى نتيجة إطلاق القنابل المسيلة للدموع في حشد احتفالي بداية تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. وبلغت الاحتجاجات ذروتها وأصبحت تهدد بقاء التحالف الحاكم بقيادة قومية التجراي، ما دفع الحكومة الإثيوبية لإعلان حالة الطوارئ في البلاد، واتهامها مصر وإريتيريا بالدخل في شؤونها الداخلية.
العلاقات المصرية الإثيوبية
تعود العلاقات الإثيوبية المصرية إلى دخول المسيحية مملكة أكسوم الحبشية حوالي سنة 316م، على يد شاب من صور في الشام، والذي عينته الكنيسة المصرية لاحقا أسقفا عام 329م على الحبشة، واستمرت في تعيين أسقف مصري على الحبشة منذ ذلك الوقت إلى أن استقلت الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة القبطية عام 1959م. أما العلاقات السياسية بين البلدين فكان يغلب عليها الصراع والتنافس لأسباب تتعلق بالنفوذ في المنطقة ومشكلة تقاسم مياه النيل.
سد النهضة الإثيوبي والتحفظ المصري
أثار إنشاء إثيوبيا سد النهضة على النيل الأزرق حفيظة الحكومة المصرية، التي اعتبرته تعديا على حصتها من مياه النيل الذي تعتمد عليه مصر بشكل أساسي، لكن الحكومة الإثيوبية كانت ترى عدم أحقية مصر في التحفظ على خططها التنموية وبناء السدود في أراضيها، كما كانت تؤكد أن السد سوف لا يؤثر على حصة دول المصب مصر والسودان، بينما لم تهتم الأخيرة بسد النهضة كثيراً إلا في جانبه الفني بحكم وجوده بالقرب من حدودها.
كان سد النهضة والتدخل للحيلولة دون تنفيذه مسار حديث الشارع المصري، إلا أنّه عمليا ليس هناك ما يلزم الحكومة الإثيوبية من عدم بناء سدود في أراضيها، لذا استمرت في تنفيذ مشروع سد النهضة الذي اكتملت فيه المراحل الأولى والأساسية، وما زالت عمليات البناء فيه مستمرة.
في الآونة الأخيرة دخلت الحكومة المصرية في مفاوضات ثلاثية مع إثيوبيا والسودان، ووقعت عددا من الاتفاقيات، في غالبها فنية وتطمينية، وأهميتها للجانب المصري تكمن في امتصاص غضب الشارع المصري من خلال تسويق المفاوضات والاتفاقيات التي تجريها الحكومة المصرية بأنها لصالح المواطن المصري وحماية حصته المائية.
حقيقة التدخل المصري في الشأن الإثيوبي
استبق التلفزيون الإثيوبي الرسمي فرض حالة الطوارئ التي أعلنها رئيس الوزراء الإثيوبي بلقطات لمظاهرة لمجموعة من الأورومو في مصر، في حالة لا تخلو من التحشيد وتهيئة المناخ لحالة الطوارئ، بحجة أن الاحتجاجات مدعومة من قوى أجنبية، واتهمت بشكل مباشر مصر وإريتيريا.
الحكومة المصرية بدورها لم تتردد في نفي ما نسب إليها من الحكومة الإثيوبية، فهي ليست بحاجة إلى خلق أزمة خارجية جديدة وسوء علاقات مع دول الإقليم، وإن كانت الحكمة قد جانبت الخطاب المصري وتعاملاته الداخلية والخارجية بعد الانقلاب العسكري، فإحدى مستمسكات الحكومة الإثيوبية هي حديث معارض إثيوبي من الأورومو يطلب الدعم للحيلولة دون اكتمال سد النهضة، بجانب مقاطع تحريضية ضد إثيوبيا لشخصيات ذات ثقل سياسي في المجتمع المصري وأحاديثها المتكررة ضد إثيوبيا.
كما أن الإعلام المصري لم يتورع يوما منذ ثلاثة سنوات، في دق طبول الحرب بسبب استمرار الحكومة الإثيوبية في بناء سد النهضة، لكن على المستوى السياسي لم يكن النظام المصري في حالة تمكنه من الوقوف أمام المشروع الإثيوبي، فقد كان في سعي دائم لإثبات شرعيته بعد الانقلاب أمام كل المنظمات الدولية والإقليمية، بما في ذلك الاتحاد الإفريقي الذي يتخذ من أديس أبابا مقرا له، وتؤثر إثيوبيا على سياساته لاعتبارات تاريخية وموضوعية، كما أن الاتحاد الإفريقي كان أهم منظمة أعلنت رفضها للانقلاب الذي قاده الرئيس السيسي (وزير الدفاع وقتها) وجمد الاتحاد عضوية مصر، وبالتالي كان الرئيس السيسي بحاجة إلى إثيوبيا لدعم موقفه لعودة مصر إلى حظيرة الاتحاد بعد الانتخابات الرئاسية التي منحته الشرعية.
إن حكومة السيسي أصبحت تتخبط في سياساتها الخارجية، وتفاجئ حتى أقرب حلفاءها، وآخرها كان التصويت لصالح القرار الروسي بخصوص سوريا، وتكون قد عملت على دعم المعارضة الإثيوبية المسلحة عبر حليفتها
إريتيريا، لذلك يبدو أن الاتهام الإثيوبي الصريح لمصر قائم على مستمسكات وأدلة واضحة، وما يدعم ذلك أن مصادر من داخل إريتيريا أكدت لوسائل إعلام إريتيرية معارضة وصول ثلاثة دفعات من السيارات والمعدات العسكرية في شهر آب/ أغسطس الماضي، مقدمة من الحكومة المصرية لحركة "7 قمبوت" الإثيوبية المسلحة عبر إريتيريا، وتم تفريغها في ميناء قدم التابع للبحرية الإريتيرية. كما أن إثيوبيا تمتلك من الأدوات التي تمكنها من اختراق ومعرفة ما يجرى في معارضتها الخارجية وتفاصيل مصادر تمويلها والدعم الذي تتلقاه من أي جهة كانت، وما يؤكد ذلك أنها استطاعت في الفترة الماضية اختراق معارضتها المسلحة في إريتيريا، وأقنعت فصيلين مهمين منها بالعودة بعتادهم من إريتيريا إلى حضن الحكومة الإثيوبية، كان أحدهما محل ثقة الحكومة الإريتيرية.
هل الدعم المصري للمعارضة الإثيوبية يشكل تهديدا لإثيوبيا؟
إن الدعم المصري للمعارضة الإثيوبية لا يمكن أن يشكل تهديداً كبيراً للحكومة الإثيوبية بقدر ما هو تخفيف على الحكومة الإريتيرية، فمصر مهما حاولت التدخل في الشأن الإثيوبي لا تستطيع أن تغير شيئا في أرض الواقع، لأنها لا تمتلك أدواته، فهي لا تمتلك حدودا برية أو بحرية مع إثيوبيا، كما أنها ليس لها ما يؤهلها للتأثير في الاحتجاجات المندلعة في إثيوبيا، كما أن القيادة السياسية للاحتجاجات التي يمكن أن تؤثر غير موجودة في مصر، بل هي في الدول الغربية، ولها تأثيرها على الدوائر الغربية التي تمارس حاليا الضغط على الحكومة الإثيوبية من خلال ورقة حقوق الإنسان، فهي ليس بحاجة لعاصمة تمارس منها أنشطتها السياسية.
إن من الصعوبة بمكان تسلل المجموعات الإثيوبية المسلحة من الأراضي الإريتيرية إلى العمق الإثيوبي في الوقت الحالي، لأن المسافة بين الحاضنة الشعبية لمجموعات قومية الأورومو بعيدة، وصعبة في حالة قومية الأمهرا، كون الحدود مع إريتيريا دائما في حالة استنفار دائم بسبب حالة اللاحرب واللاسلم بين الدولتين منذ عام 1998م، وكذلك تمكن الحكومة الإثيوبية من تحييد أهم مجموعتين في المعارضة الإثيوبية، كانت لهما حاضنة شعبية على الحدود الإريتيرية الإثيوبية، وهما التجراي والعفر، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. كما أنه يصعب الانطلاق من الأراضي السودانية بسبب العلاقات القوية بين إثيوبيا والسودان، والتي تربط البلدين باتفاقيات كثيرة، ومن بينها اتفاقيات أمنية لتأمين الحدود بينهما.
إن الحراك الاحتجاجي الشعبي في إثيوبيا، بغض النظر عن دعاوي الحكومة الإثيوبية، يُعتقد أن قوته نابعة من الداخل وليس من الخارج، ولعل الحكومة الإثيوبية تبالغ في الدعم الخارجي بالذات للاحتجاجات الشعبية، وربما تهدف من ذلك إلى استخدام الورقة الطائفية لتحييد أكبر عدد من أبناء قومية الأمهرا الذين يدينون بالمسيحية، ويتوجسون من الإسلام والعروبة بحكم إرثهم الثقافي. ولعل ما يؤكد ذلك أن التلفزيون الإثيوبي بث حلقة تفاعلية مع الجمهور تندد بالتدخل المصري في الشأن الإثيوبي، مصحوبة بلقطات لحديث معارض من الأورومو في إحدى الفضائيات المصرية.
إن الحكومة الإثيوبية ما زالت تمتلك العديد من الفرص للتعامل مع الاحتجاجات من خلال تقديم التنازلات والاستجابة لبعض مطالب المحتجين، وإشراكهم في الحل، ولا يمكن إخماد الاحتجاجات بتهمة العمالة لمصر أو غيرها، فالاحتجاجات الشعبية قد وصل صيتها الآفاق، وليس أدل من ذلك من تصريح المستشارة الألمانية ميركل، التي لم تتردد في مطالبة مضيفها رئيس الوزراء الإثيوبي بعدم قمع المحتجين، والذي نفى بدوره أي أعمال قمع ضد المتظاهرين ووعد بإجراء التحقيق إذا تم ذلك بالفعل.