في الوقت الذي تبدو فيه حكومة الشاهد في
تونس مشغولة بتعديل الإجراءات الإجمالية لإعادة إطلاق عملية اقتصادية ليبرالية تحظى بثقة التمويل الخارجي وتضع نفسها في خدمة مؤسسات الإقراض الدولي؛ تجري على الأرض عمليات صغرى ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية مختلفة تكشف أولا مستويات من القطيعة في التفكير بين المستوى الإجمالي (macro économique) والمستوى الأفرادي (micro économique) في بناء اقتصاد صغير ولكنه نشيط على مستوى رغبة الأفراد في بناء ذوات فاعلة كما تكشف في مستوى ثان غربة النخب السياسية وعزلتها عن التيارات التحتية في المستوى المحلي والجهوي لنظام بني على التسيير الفوقي حتى وصل إلى حالة من الفشل الذريع في التواصل مع أطرافه المقصية.
ويبدو أنه يستعيد فكرة الإرغام القانوني على إعادة صب الناس في قوالب تسيير قانوني محافظة ورجعية عوض الإصغاء إليهم في تنوعهم والبدء من عندهم في ابتكار حلول العجز والفقر المحلي.
ضيعة التمور الجنوبية
قدمت لنا مدينة
جمنة الصغيرة بولاية قبلي (جنوب غرب تونس) درسا بليغا في التنمية الذاتية والقبول بالعمل ضمن المشترك الوطني دون تمرد على الدولة أو تخريب للممتلكات.
وتبسيطا للوقائع نذكر أنه بمنطقة جمنة توجد ضيعة مغروسة بنخيل دقلة النور التونسية موروثة من العهد الاستعماري وانتقلت ملكية الضيعة إلى الدولة بحكم الجلاء الزراعي سنة 1963.
بعد إفلاس شركة ستيل العمومية المتصرفة في الضيعة اضطرب المردود وتردى على كل المستويات الانتاجية والتشغيلية. وتحت نظام بن علي منحت الضيعة كرشوة لبعض متنفذي الحزب الحاكم بسعر يقل عن واحد بالمائة من مردودها الحقيقي.
بعد الثورة، وفي الوقت الذي كان فيه بعض الأهالي في مناطق الشمال يستولون لمصلحتهم الخاصة على ممتلكات عمومية وتغيير صبغتها؛ قام أهالي منطقة جمنة وفي غياب كلي للدولة ولشريحة المتنفذين المحليين بإنشاء جمعية تنموية تولت التصرف في الضيعة، فزادت من مردودها ورفعت من تشغيليتها واستفادت تنمويا واجتماعيا من العائدات فأنجزت الكثير من المشاريع الاجتماعية والتعليمية والصحية لفائدة المجتمع الأهلي، وتقدم الجمعية على ذلك أرقاما وإحصائيات شفافة تستحق الاحترام.
فلما أعلنت الجمعية في شهر آب/ أغسطس 2016 صفقة لبيع منتوج الضيعة ومع تغيير الحكومة قفز وزير أملاك الدولة ليعلن بطلان الإجراءات و أن ليس للأهالي الحق بأي شكل في التصرف في العقار، ولا في مردوده، ويوشك المشروع أن يسقط ثانية في الخراب.
هذه الوقائع باختصار شديد. فما حجّة الدولة على المجتمع لتستعيد الضيعة؟
حكومة محافظة ورجعية
لم يقم الأهالي بالتفويت في العقار لا بالتقسيم ولا بالبيع غير القانوني بل إنهم وسعوا فيه بالاستصلاح وزيادة الغراسات. ولا يزالون قادرين على المزيد والدولة مستفيدة من ذلك فالعقار يظل ملك الدولة دوما. أما المردود فتنطق به الأرقام إذ انتقل العائد من 30 ألف دينار سنويا إلى حوالي مليارين من المليمات. بينما قفز رقم التشغيل من 7 عمال قارين إلى 130 عامل قار غير العمالة الموسمية في مرحلتي التأبير والجني. أما التصرف في العائدات فقد تم بشكل شفاف ولصالح الأهالي ويمكن للدولة مراقبته ومحاسبته.
في مقابل أهلية الأهالي للتصرف السليم طبقا لنموذج تسيير اجتماعي تشاركي مبتكر تنطلق الحكومة من موقف قانوني محافظ، إذ رأت في التصرف المقترح من قبل الأهالي سابقة قانونية على غير مثال مما اتخذت سابقا، فهي تحتكم إلى وجهة نظر قانونية شكلية جامدة تقودها إلى اعتبار اجتهادهم المبتكر تعديا على الملك العام. لكن وجهة النظر القانونية ليست المحدد الرئيسي. وهنا مربط الفرس. ففي مراحل مخاض
الديمقراطية يكمن درس عظيم يستحق أن يدرس ويحول إلى قاعدة عمل جديدة لتسيير المرفق العمومي خارج ممارسات الاستزلام السياسي. وخارج الإبقاء على أشكال التسيير التي جربت ففشلت طيلة مراحل تملك الدولة للمرفق العام الفلاحي خاصة.
إن درس جمنة يعلمنا إن التنمية الاجتماعية ليست مستحيلة وحل مشاكل اقتصاد البلاد ليس معجزة خارقة بل هو إمكان فعلي وارد. وهو يطرح على المشتغلين بمستويات الاقتصاد الإجمالية طبقا لخطة تكريس الولاء للاقتصاد الدولي ومؤسساته المتحكمة عن بعد ضرورة إعادة النظر في الأبنية القانونية والمؤسساتية لإعادة بناء اقتصاد من منظور اجتماعي تأسيسي مختلف.
صراعات النخب السياسية لا علاقة لها بصراعات المعيش الأهلي
في درس جمنة الاجتماعي يوجد درس سياسي إضافي لم يحظ بالإشهار الكافي لأن أصحابه لا يبحثون عن مغانم سياسية آنية، ذلك أن الجمعية الأهلية التي تشرف على إدارة الضيعة تشكلت بإجماع سياسي محلي من كل التيارات السياسية الظاهرة فمسؤول الجمعية الأول منتم إلى الجبهة الشعبية اليسارية ويعاضده مسؤولون من النهضة الإسلامية وكذلك من التيار العروبي وبعض المستقلين سياسيا عن هؤلاء جميعا. وقد اتفقوا بشكل سلس على أهم المحطات في عملية التصرف وفي توجيه العائدات على قاعدة تضامنية اجتماعية بما جعل الجمعية تحظي باحترام الأهالي وتعاونهم فقد أسند ميسورو المنطقة الجمعية ماليا في بدء اشتغالها بما سهل لها بداية سليمة في التشغيل وفي الاستصلاح.
في مقابل هذا التعاون والتفاهم السياسي في المستوى الافرادي نلاحظ عجز النخب السياسية في المواقع الأولى (قيادات الأحزاب) عن بناء اتفاقات سياسية منتجة بل إن الصراع ومنطق التنافي هو القائم بينها كأن ليس لها علاقة بالواقع بل إن المتحكم فيها هو نوازع هذه القيادات الفردانية إلى القيادة والبروز الإعلامي أي الشهرة والإشعاع الفردي الضامن للمواقع والغنائم الفردية.
ويعتبر كاتب الدولة المكلف بأملاك الدولة أحدى هذه النماذج الفردانية المفرطة في فردانيتها. والتي تضحي بكل مبادئها وماضيها من أجل المغنم السياسي الآني فقد كان هذا المسؤول منتميا (ويعلن أنه لا يزال كذلك) إلى التيار العروبي الناصري (البعض يعتبره محامي القذاذفة في تونس) وقد تبنى ضمن خطته السياسية للصعود الدفاع عن اليوسفيين في بداية الثورة وبلغ به الأمر أن رفع قضايا جزائية لمحاسبة من يتهمه بمجزرة اليوسفيين أي الباجي قائد السبسي الذي كان كاتب الدولة للداخلية سنة 1962 (تاريخ محاكمة اليوسفيين وإعدامهم). فلما رضي به الباجي الذي صار الرئيس وزيرا لحس كل قضاياه وقفز إلى كرسي الوزارة وكان أول ملف اتجه إليه عمله هو استعادة ضيعة جمنة من الأهالي ضمن خطة الباجي في استعادة هيبة الدولة باستعادة ممتلكاتها. وهكذا تصبح ترضية الرئيس هدفا لمناضل قضى ردحا من حياته يدافع عن نظم التسيير الاشتراكي وعن العمل مع الأهالي لبناء الاقتصاد التحتي فلما استوزر سار على عكس ما أعتقد.
هذا التغيير السريع في الموقف إذا نظرنا إليه من وجهة الأهالي سنكتشف عمق القطيعة القائمة بين النخب وعوام الناس في مسألة التسيير الفوقي والتحتي أو المستويات الإجمالية والافرادية. هذه القطيعة تزداد عمقا عندما نقرأ وثيقة قرطاج التي قامت على أساسها حكومة الشاهد والتي تضع خلاص الديون بمزيد من التداين في مقدمة وسائلها الاقتصادية.
قطيعة أو فجوة تزداد اتساعا بمغالاة الحكومة ونخبها المدينية في استعادة الحلول الاقتصادية التي جربت ففشلت وتجاهلها للحلول الأهلية التي تقدم نتائج مختلفة وتكشف نضجا سابقا لتكلس النخب المصرة على تغيير المجتمع بنص قانوني يحبّر ويصدر دون أدنى تفاعل مع حاجة من سيطبق عليه وماذا كان يجد له فيه مصلحة.
سينكشف من خلال هذه القطيعة المركبة من مستويات مختلفة في سياق ميلاد عسير جدا للديمقراطية الاجتماعية إن هيبة الدولة (شعار حملة الباجي الانتخابية) ليس إلا هيبة متنفذيها الذين مولوا الحملة وينتظرون قطف النتائج وأن نموذج ضيعة جمنة وجمعيتها الأهلية يضربهم في مقتل لأنه يسحب من تحتهم ذريعة التنمية التي حكموا بها ولم ينجزوها.
نعرف ونهمس بعد وقد يحين أوان رفع الصوت قريبا، أن الذي يحرك الدولة ووزيرها ورئيسها (باسم الهيبة) ليس إلا المتنفذ القديم الذي كان يكتري الضيعة من بن علي بمبلغ 30 ألف دينار في السنة في حين أن غلة الضيعة تحت تصرف الأهالي بلغت مليارين من المليمات التونسية. الفارق بين المبلغين هو الفارق بين رغبة الأهالي في التنمية وقدرتهم عليها وبين رغبة المتنفذين في مصالحهم الفردية. ضد هؤلاء تولد الديمقراطية وتكبر بالقضاء عليهم. كل ما نتمناه أن لا يصل الأهالي إلى وسائل غير ديمقراطية لإخراج هؤلاء من المشهد المتعفن بهم بعد.