عدنا من جديد إلى موشح "الانقلاب يترنح"!
وفي البداية أود لفت الانتباه إلى أنه عندما قال القائل هذه المقولة في الأيام الأولى للانقلاب العسكري في
مصر، لم يكن يروج للمخدرات، ولكنه كان يحكم على الأمور من ظاهرها، فعندما تخرج في محافظة الإسكندرية مثلا في جمعة واحدة سبع عشرة مظاهرة، تعداد المشاركين فيها لا يقل عن مليون نسمة، فلا تثريب على من راءى إذا قال: إن الانقلاب يترنح. وعندما تسيطر الثورة على محافظات الصعيد، وترفع صور الرئيس محمد مرسي على مديريات الأمن، فلا يلام من قال: إن الانقلاب يترنح. ومن علم باتصال هاتفي جرى بين اللواء العصار، والدكتور محمد علي بشر، وهو يهتف بأن الدولة على وشك السقوط، ويطلب منه التدخل لدعوة الناس للعودة إلى بيوتهم وترك أجهزة الدولة لتقوم بمسؤولياتها، فماذا يمكن أن يفهم الجالس في استوديو الجزيرة إلا أن الانقلاب يترنح؟!
ومن علم أن عدد المشاركين في مسيرة رمسيس تجاوز المليون شخص، قبل أن تصدر لهم الأوامر بالانصراف، ويتم حصار مسجد الفتح، فإن المشاهد عن بعد الذي غابت عنه بعض التفاصيل، معه عذره إن قضى من ظاهر الأوراق بأن الانقلاب يترنح!
وحتى لا يضيع القصد وراء السرد، فإنه يهمني هنا أن أقول إنني لست صاحب هذه المقولة، فقد كنتُ أدرك منذ البداية، أنني لستُ طرفا في إدارة حركة الجماهير، ومن ثم ليس لي الحكم على خط سيرها، وانحيازي للشرعية ليس راجعا إلى إيماني بأن الرئيس عائد إلى قصر الحكم لا محالة، وإلا كان موقفا انتهازيا بامتياز، فالانحياز يكون لما يعتقد المرء أنه الحق بغض النظر عن أنه سينتصر أم سيهزم، ولقد كان موقفي ضد مبارك وأركان حكمه قبل ثورة يناير وهو في أوج قوته، وحتى عندما شاركت في اليوم الأول للثورة يوم 25 يناير 2011، لم يكن بداخلي يقين أنها ستنجح في خلعه، وقلت لو نجحنا في حمل مبارك على إقالة وزير الداخلية حبيب العادلي لكان هذا إنجازا عظيما!
وقد كان كلامي الذي لم يتغير هو ضرورة أن يكمل الرئيس المنتخب دورته لآخر يوم، ورفضت فكرة الانتخابات الرئاسية المبكرة، ومن موقع الخصومة مع النظام القائم، الذي حرص في تشكيله للمؤسسات الإعلامية أن يحتفي بالصحفيين صنيعة الأجهزة الأمنية، واستبعد كل من له صلة بالثورة، وفي اللقاء الأول الذي عقده الرئيس محمد مرسي مع رؤساء تحرير الصحف، تبادل على طلب الكلمة كل من خالد صلاح ومجدي الجلاد، وعندما طلب مصطفي بكري الكلمة أعطاها له الرئيس، بل إن سمير رجب كان حاضرا في المقدمة ووقف وتكلم، بينما عبد الحليم قنديل ظل طيلة الجلسة يرفع يده فلا يؤذن له، وفي النهاية قال له الرئيس: سنفسح لك المجال في المرة القادمة، فرد ساخرا إن كانت هناك مرة قادمة؟!وبالفعل لم تكن هناك مرة ثانية، فقد كانت هناك لقاءات "على الضيق" تحضرها لميس الحديدي، وخيري رمضان، وعمرو الليثي، ومجدي الجلاد، وخالد صلاح الذي عين عضوا في المجلس الأعلى للصحافة بقرار رئاسي باعتباره من الشخصيات العامة، إلى أن استقال بعد ذلك في مرحلة الاستقالات والمزايدات التي مهدت للانقلاب العسكري! هل أذيع سرا إذا قلت إن زميلنا الدكتور علاء صادق لم يدع لهذه اللقاءات وهو كان من نجوم الفضائيات، فضلا عن أنه انحاز للثورة من أول يوم، كما أنه كان مؤيدا للحكم الإخواني، وهو ما كان يعبر عنه في مشاركاته على صفحات التواصل الاجتماعي؟!
وعندما تم الاستفتاء على الدستور، وقال خصوم الرئيس إن هذا الدستور يعني إجراء انتخابات رئاسية جديدة بمقتضاه، قلت إن من انتخب الرئيس محمد مرسي انتخبه لأربع سنوات كاملة، ولا مبرر لانتخابات جديدة، إذ كنت في موقفي أتحرك من باب الدفاع عن قيم الديمقراطية، التي لم تكن تعني كثيرين من الأطراف كافة، ولم يكن غريبا أن يكون موقفي ضد الانقلاب منذ اللحظة الأولى لوقوعه، سواء ترنح بعد ذلك أو كان راسخا رسوخ الجبال الرواسي!
ومع هذا، فلم أجد في مقولة "الانقلاب يترنح" ما يستحق السخرية، ممن كانوا أيضا ضد هذا الانقلاب، لكن عندما دب اليأس في نفوسهم ، ذهبوا يبحثون عن شماعة لتعليق خيبتهم عليها فقالوا إن هناك من روجوا للمخدرات بهذه المقولة.
البعض الآن يعتبر عبارة "الانقلاب يترنح" كانت سببا في حالة اليأس التي سرت في الصفوف، فكانت وراء حالة الاسترخاء الثوري، وهؤلاء يريدون إقناعنا بأن هذا التوقف عن التظاهر كان بسبب اليأس ولم يكن قرارا تنظيميا، اتخذ بالتوقف بعد أن تحولت المظاهرات والمسيرات إلى حرب استنزاف، ففي كل مرة يقع ضحايا، حتى بدت كما لو كانت هدفا في حد ذاتها، صديق قال لي أنه مشى في مسيرة ذات مرة لمسافة ثلاثين كيلو مترا دون هدف. وقلت له: لا بأس، فيقولون إن المشي رياضة!
فهل كان يُخشى من حماس الناس الزائد، من أن يؤدي إلى الفعل الثوري بعيدا عن السيطرة التنظيمية فكان لابد من الوصول به إلى حالة الفتور هذه، ثم يختفي "التحالف الوطني" في ظروف غامضة؟! وهو ما يلقي بمسؤولية على الأحزاب التي شاركت في هذا التحالف حول رؤيتها لإسقاطه، وهل كانت على علم بالتفاصيل ولديها استراتيجية لكسر الانقلاب، أم إن ممثلي هذه الأحزاب كانوا كالأطرش في الزفة، وعلى أساس الثقة الزائدة في الكيان الكبير، وباعتبار أن الاستراتيجية – ولظروف المرحلة – لابد أن تظل في "الراس وليس في الكراس".. رأس الأخ الكبير!
ما علينا، ففي هذه الأيام يجري ترديد الاسطوانة نفسها: "الانقلاب يترنح" ولكن بصيغ أخرى، بعد أن أصبحت هذه المقولة مثيرة للسخرية وسيئة الصيت!
فلأن هناك من انقلبوا على السيسي من معسكره، ومن جهر بالعداء له، فتعامل البعض مع هذه المواقف الجديدة على أنها كاشفة عن قرب سقوط الانقلاب وعودة الرئيس المنتخب، والبعض اجتهد في التأويل حتى ظن أن بيده "عقدة النكاح"، وعليه قرر رفض قبول التائبين الجدد في المرحلة الجديدة، فقد أيدوا الانقلاب، وانقلابهم عليه الآن ليس له إلا معنى واحد، وهو أنهم وبحكم كونهم من الداخل فقد أيقنوا أنه انتهى، وعلينا ألا نقبل من جاءوا يزاحموننا في صفوف الثورة، وفي جني ثمارها، وقد هرمنا وحدنا من أجل هذه اللحظة التاريخية!
البعض أسرف في التأويل، حتى إن محللين في قنوات الشرعية، كانوا كمن يضربون الودع، في محاولة فهم الموقف الجديد للدكتور يحيي القزاز، وهل قفزه من السفينة الآن يعني استشعاره بأنها غارقة لا محالة؟!
والبعض فبرك مواقف لآخرين ثم ذهب يحللها وينتهي من تحليله إلى أنه قفز من السفينة الغارقة، كما حدث بما تم نسبته لجورج إسحق من قوله إن فض رابعة هو أسوأ يوم في تاريخ مصر، وأن مرسي والإخوان ظلموا!
ومن مركز القوة، فإن هناك من رفضوا توبة التائبين، فليس لمن يرفضون الدم أن يأتوا إلى معسكر الشرعية، ولو محلقين ومقصرين، والمعنى أن توبتهم مرفوضة، وأن هجرتهم ليست لله ورسوله!
وهو أمر يُخشى من الانغماس فيه، أن نستسلم بأن السيسي سيسقط لا محالة، ونرتب أوضاعنا على مرحلة توزيع الغنائم، وعلى قاعدة لا يستوي من آمن يغد الفتح مع من آمن قبله، مع أنه لا فتح إلى الآن، فكلنا في مرحلة الاستضعاف، سواء من وقف ضد الانقلاب من أول لحظة، أو من أعلن رفضه لحكم قائده الآن!
لأني متابع لمرحلة النزوح من معسكر السيسي، وكنت أتوقعها فأود فقط لفت انتباه "الكورال" الذي يغني ويرد على نفسه إلى حقيقة الأمر، فهناك من كان إدراكهم سريعا، فقد خرجوا في 30 يونيو، وهم يعتبرونها ثورة، وأن ما جرى في 3 يوليو كان انقلابا عسكريا عليها، ومنهم انتهازيون كانوا يتصرفون على أن العسكر سيأخذ الحكم من الإخوان ويسلمه لهم، وهم يرون الحاصل في مصر هو صراع على السلطة، وليست معركة مبادئ!
وهناك من اعتبروا بيان قائد الانقلاب العسكري هو انحياز لإرادة الشعب، ولم يدركوا الخيانة للثورة، إلا عند إعلان السيسي ترشيح نفسه، فتحولوا إلى معارضين له وبعضهم لاذ بالصمت وإن كان قد توقف عن الظهور في المشهد أو تأييد ما جرى في يوم 30 يونيو إلا في إطار الانتصار للنفس، مع أن ما جرى في هذا اليوم هو ما ترتب عليه بعد ذلك من تمكين لحكم العسكر!
وهناك قلة خرجت في 30 يونيو وأيدت بيان وزير الدفاع في 3 يوليو، لكنها عندما شاهدت الإسراف في القتل في "رابعة"، نفضت يدها من القاتل، ولم تعد تنحاز له!
وهناك من أيدوا الانقلاب في جميع مراحله، إلى أن جرت عملية التنازل عن تيران وصنافير، فكشف هذا القرار أعينهم على أنهم أمام حاكم يفتقد للحد الأدنى من الولاء لهذا الوطن، وهؤلاء كثيرون وإن بدا الدكتور يحيي القزاز بحدته هو أبرزهم، وهي حدة تتسق مع النشأة والتكوين.
سيقول قائلنا: يسكت على الدم ويثور من أجل قطعة أرض؟
لست في معرض تقييم هذه المواقف لكن يمكني فهمها، فإذا كان في مجال الحرمة الدينية لا شيء يعلو على حرمة الدم، فإنه في مجال الوطنية فإن الدماء تقدم لصيانة التراب الوطني والذود عنه، ودينيا فمن مات دون أرضه فهو شهيد.
هذا فضلا عن أنه وفي سياق الفهم، فإن هؤلاء لا يرون أن أول دماء أهدرها العسكر هي دماء المعتصمين في "رابعة"، فهناك مذابح ارتكبت من أول ماسبيرو، إلى محمد محمود، وكان الإخوان وقتها منحازون للقاتل مثلهم الآن عندما ارتكب القاتل نفسه مذابحه ضد الإخوان!
وقبل هذا وبعده، فإن هناك قلة أيضا، وإن رفضت الانقلاب منذ اللحظة الأولى، فلم تنحز أبدا لشرعية الرئيس المنتخب!
ومهما يكن، فإن من سبقوا جميعهم ومن أول من رفضوا الانقلاب منذ اللحظة الأولى، إلى من يطالبون الآن بإسقاط السيسي ويتهمونه بالخيانة الوطنية، ليسوا مع عودة الرئيس محمد مرسي، ولو ليلة واحدة، على نحو كاشف عن أمرين: الأول أن هؤلاء لم يأتوا إلينا باعتبارنا جهة قبول التوبة، فهم يشقون لأنفسهم طريقا آخرا، موازيا، وبالتالي لسنا طرفا في قبول التوبة أو رفضها. وثانيا أن سقوط السيسي لا يعني عودة الشرعية، فهناك أكثر من خيار مطروح ليس من بينها عودة الرئيس محمد مرسي للحكم، بل هي خيارات تستبق الثورة حتى لا يتم حمله إلى القصر بقوة الدفع الثوري.
فهل هناك خطة معلومة لإسقاط الانقلاب بالثورة، ممن يناضلون على الأرض منذ ثلاث سنوات وهؤلاء وحدهم هم المعنيون بقضية الشرعية؟ وليس كل الثورات يمكن أن تؤدي لذات المسار، وقد أكدت انتفاضة الأرض في 15 أبريل أنه هناك جيل جديد لا ينتمي لهذا التيار يمكن أن يقود حركة الجماهير في حالة قيام ثورة بشكل مفاجئ، ودون كتالوج تضعه التنظيمات السياسية!
من الملاحظ، أنه لا يوجد خطة لإسقاط الانقلاب وعودة الشرعية، بعد أن اقتصر الأداء الثوري على ممارسة السباب على مواقع التواصل الاجتماعي لمن يختلف مع رؤية فرق السب والقذف، والحديث المتكرر عن ماذا هناك؟ ولماذا الآن؟ ولماذا يقفزن من مركب السيسي؟ هو ضمن مخطط "تسقيع الثورة"، والإيعاز بأن الانقلاب يترنح وأنه سيسقط من تلقاء نفسه، وبالتالي علينا أن نوفر الدماء، وضحايا المواجهات، ما دام يترنح، فهناك من يريدون إعفاء أنفسهم من أي فعل.
لو كان ترنح الانقلاب يعني سقوطه لسقط قبل ثلاث سنوات، فصحيح أن الانقلاب يترنح لكن المشكلة أننا نترنح معه!