في مواجهة إجرام نظام قائد الانقلاب العسكري الذي يستهدف قتله بالبطيء، لم يجد القاضي الجليل المستشار محمود الخضيري، أمامه من سبيل إلا أن يعلن إضرابه عن الطعام، وإذا كان وقد بلغ من الكبر عتيا، حيث أنه يبلغ ثمانين عاما، يمثل الإضراب خطرا محققا على صحته، فإن الخطر قائم من جراء التنكيل به، بالشكل الذي عبر عنه محاميه بقوله: "إنه تتم معاملته أسوأ معاملة"!
الخضيري وآخرون جرى اعتقالهم وإصدار أحكاما قضائية بسجنهم باتهام أضحك الثكالى، وهو أنه والآخرون احتجزوا محاميا واعتدوا عليه في ميدان التحرير، في أيام ثورة يناير، بحجة أنه ضابط بأمن الدولة، ومن يعرفون الرجل لا يمكن أبدا أن ينطلي عليهم هذا الاتهام، ليس لأنه موجه لقاض وقور، لا يمكن أن يعتدي على أحد، ولكن بالإضافة إلى هذا فالرجل يعاني من كبر السن وضعف البصر، ولا يمتلك اللياقة البدنية، للاحتجاز والاعتداء، على نحو كاشف بأننا أم مؤامرة تستهدف قتله بالبطيء، إمعانا في التنكيل به، لتشفي بذلك النفس المريضة التي تحكم
مصر الآن!
وكان يمكن أن نقدم حسن الظن، بأن الاتهام جرى بعيدا عن هذه "النفس"، والحكم ربما صدر من قاضي من الموالين للنظام وقد تقرب بإدانته من قائد الانقلاب بأكثر مما هو مطلوب منه، لكن التنكيل به، و"معاملته أسوأ معاملة" كما يقول محاميه "أحمد ماضي"، يتجاوز فكرة انتقام الصغار إلى تربص صاحب "النفس المريضة"، فلماذا يجري التنكيل بهذه القسوة التي دفعت بالخضيري للدخول معركة "الأمعاء الخاوية"، وهو المسن والمريض؟، إلا إذا كان الذي رماه على المر هو الآمر منه؟!
ولماذا تبدت سادية صاحب "النفس المريضة"، في مواجهة المستشار "محمود الخضيري"، وقد كان سجنه يكفي للانتقام، إذا لم يكن هو الخضيري وإذا لم يكونوا هم مرضى نفسيون؟!
المستشار محمود الخضيري، كان يشغل رئيس نادي قضاة الإسكندرية، وقد أشعل انتفاضة القضاة الشهيرة من ناديه هناك، والتي انتقلت إلى القاهرة ليتبناها المستشار زكريا عبد العزيز، رئيس نادي قضاة مصر، لتعقد أول جمعية عمومية والقضاة يقفون على خط النار من حوالي تسعة آلاف قاض، حيث أعلنوا تمردهم على نظام مبارك، وخرجوا للشوارع بالأوشحة، وكان موقفهم قطرة من قطرات النضال التي تراكمت فمهدت الأجواء لثورة يناير.
وإذ تحلل الرجل من التزامات منصبه القضائي بالاستقالة بعد ذلك، فقد كان من رموز ثورة يناير، التي خرجت ضد نظام مبارك، وكان المجلس العسكري هو أحد أركان حكمه، وإذ ناور مع الثورة وروج بأنه من حماها، وصمت على الادعاءات بأنه يقف وراءها، فإن المستشار "الخضيري" بقيامه برئاسة المحكمة الشعبية التي انعقدت بميدان التحرير لمحاكمة المخلوع، فإن هذا كان ضد إرادة المجلس العسكري، والذي زاد وغطى هو إعلانه أنه سيذهب في حشد بالسيارات لشرم الشيخ لاعتقال مبارك، عندئذ أجبر المجلس العسكري على تقديم مبارك وأولاده للمحاكمة، وكان القادة العسكريون يعلنون في جلساتهم الخاصة، أن مبارك أستاذهم وصاحب فضل عليهم ولن يقدموه للمحاكمة ويهينوه مهما جرى.
وفي البرلمان، وعندما كان الخضيري يرأس اللجنة التشريعية، رفض تمرير مطالب العسكر في التشريعات التي صدرت، والتي حملها للجنة اللواء "ممدوح شاهين" مساعد وزير الدفاع للشؤون القانونية، والذي كان قد اعتاد على معاملة خاصة، دفعته لأن ينظر لنفسه على أنه الفقيه الدستوري "عبد الرازق السنهوري"، وأذكر أنه في بداية حكم العسكر، أن عددا من الخبراء كانوا في مناقشة للتعديلات الدستورية بأحد البرامج التلفزيونية، وإذا بمداخلة من "ممدوح شاهين" عامل فيها المتحدثين بازدراء، ورفع صوته عليهم مقرعا، وقد أزعجني أنه ارتج عليهم وذهبوا يتوددون إليه، وكان من بينهم الدكتور حسن نافعة، وهو ما دفعني لأن أكتب مهاجما "شاهين" ومطالبا بوضع حد له، فعندما يخاطب الناس فينبغي أن يتحدث بأدب، فثقافته القانونية لا تتجاوز ما يدرسه طلاب القانون في "الترم الأول" من "السنة الأولى"، كما أنه لا يخاطب "عساكر المراسلة" المكلفين بخدمة السادة الضباط وأسرهم!
لقد وضع المستشار محمود الخضيري، الخبير القانوني الفتاك للعسكر "ممدوح شاهين" في حجمه الطبيعي، ووقف حجر عثرة أمام تمرير ما يريدون من النصوص القانونية، بما يمكنهم من الاستمرار في الحكم، فجاء وقت انتقام النفوس المريضة، التي لا يمكنها أن تواجه خصمها إلا وهو رهن الأسر والاختطاف.
إن الذي يجعل من الخضيري مشروع قتيل جديد لحكم عبد الفتاح السيسي وأذنابه من القضاة، أن الرجل كان ولاؤه للفضيلة مقدما على ولائه للقبيلة، وانحيازه للحق يتجاوز فكرة الانحياز للعشيرة، وعند تطبيق أسس العدالة بما ينال من حظوظ "القبيلة"، يستوي في الدفاع أحمد مكي، أحد قضاة الاستقلال، مع أحمد الزند، أحد قضاة مبارك، وحسام الغرياني، بقاضي الإعدامات شعبان الشامي، إلا أن موقف محمود الخضيري يصبح عزفا منفردا لأنه ينبع من مبادئه، وليس من دماء عروقه، والدماء لا تتساوى، فهذه دماء من وصفهم رئيس برلمان السيسي بـ "أصحاب المقام الرفيع" وهناك دماء الشعب.
في الانتخابات البرلمانية التي جرت في سنة 2005 شكل نادي القضاة، لجنة للإشراف على الانتخابات، وقد رصدت بالاسم تزوير عدد من القضاة المشرفين على اللجان لإرادة الناخبين، وبشكل فج، كالذي جرى في دائرة دمنهور بإنجاح رجل النظام مصطفي الفقي، وإسقاط منافسه مرشح الإخوان جمال حشمت، وكانت الجريمة أوضح في دائرة الدقي، إذ أعلن القاضي رئيس اللجنة النتيجة أمام الكاميرات، وقضى بنجاح حازم صلاح أبو إسماعيل، وسقوط وكيلة البرلمان والوزيرة السابقة أمال عثمان، وبعد ساعة جاء نفس القاضي ليعلن نتيجة مختلفة تماما!
لقد جرى التحقيق أمام محكمة النقض في وقائع التزوير، لكن ظلت وقائع التحقيق وأسماء القضاة المزورين سرا، إلى أن قامت الثورة، وتولى اثنان من القضاة الذين واجهوا التزوير في مواقع تؤهلهم من كشف الأوراق أمام الرأي العام. الأول هو أحمد مكي الذي عين وزيرا للعدل، والثاني حسام الغرياني الذي أصبح رئيسا لمحكمة النقض!
بيد أن الاثنين رفضا تماما الإفصاح عن التحقيقات ونتائجها، فقد رفضوا هنا انحيازا للقبيلة القضائية، وصاروا في موقفهم المتستر على الجريمة لا يختلفون عن القضاة الموالين للسلطة، ولعل هذا الموقف هو ما منع من تنكيل القضاء بهما بعد الانقلاب، فأولا فقد حفظوا لهم الجميل. وثانيا: لأنهما يملكون مستندات تدين الفاسدين من القضاة إذا اقتربوا من رحابهما، وعندما صدر قرار بضبط وإحضار "مكي" تحدي أن يتم تنفيذه، ويبدو أنه ألغي فيما بعد!
المتابع، يعلم أن
المستشار الخضيري لم يصمت من باب الولاء للقبيلة، وظل إلى أن وقع الانقلاب يطالب بفضح هؤلاء المزورين وتقديمهم للمحاكمة، وطلب من "الغرياني" و"حسام" وألح في الطلب!
بوقوع الانقلاب كان هناك سبب دفع الإرادات لأن تتلاقي لذبح الخضيري: إرادة دولة مبارك، مع إرادة السيسي وأركان مجلسه العسكري، مع إرادة القضاة الذين زوروا إرادة الشعب. وتمثل هذا السبب في طلبه دائما بفضح الفاسدين ومحاكمتهم، فهؤلاء هم الذين تقدموا لينتقموا منه، وقد قُدم لهم مجردا من الوثائق التي تدينهم.
تحية للخضيري في محبسه.