تعلمت في كلية الطب أن الرضاعة الطبيعية فيها ما يغني المولود عن كل شيء في الحياة، فمن ناحية التغذية ففيها كل مكونات التغذية السليمة، ومن ناحية الشعور بالحنان فمن ذا الذي يقدم حنانا طبيعيا وفطريا غير الأم التي حملت شهورا كانت كلها وهنا على وهن، ومن ناحية الحماية والوقاية فلبن الأم غني بكل أنواع المقاومة الحيوية والتي تغني عن المضادات الحيوية في كثير من الأحيان.
وفي فترة من فترات حياتي كنتُ أشرف على إحدى الحملات التوعوية التي تناشد الأمهات خصوصا في إحدى دول الخليج على الاستمرار في الرضاعة الطبيعية وعدم ترك أطفالهن الرضع نهبا للألبان الصناعية لما في ذلك من خطورة على حياة الأطفال مستقبلا، وكان الرهان على حليب الأم لا حليب العلب، ولم يخطر ببالي ساعتها أنه سيأتي زمان نتحدث فيه عن حليب العسكر.
مر زمان وجاء آخر لأجد نفسي وجها لوجه مع الرضاعة العسكرية والتي تتلخص في فرضية أن الشعب
المصري لم يشب عن الطوق، وعليه أن يستمع جيدا لنصائح الأم العسكرية وألا يعصي لها أمرا وإلا حرمته من الرضاعة العسكرية. (الدبابة زمانها جاية.. جاية ومعاها شنطة.. شنطة فيها علبة لبن وحاجات).
الجنرالات في مصر لم يعودوا يستحون من فعل أي شيء، ولماذا يستحون؟ وهم يتصورون أنهم قادرون على فعل أي شيء ولا يخشون أي شيء في المقابل، فالأمن يقتل ويعربد ولا يحاسب، والقضاة في مأمن من العذاب وهم يقضون بلا دليل ويحكمون بلا ضمير، والمؤسسة العسكرية حلت محل المؤسسات الاقتصادية والقطاع العام والحكومة في إدارة شؤون البلاد اقتصاديا، والسيسي يحلق من فضاء إلى آخر ومن بلد إلى آخر بطائراته الخاصة التي يفوق ثمنها ميزانية وزارة الصحة في عهد الجنرال.
اتجار العسكر بلبن الأطفال ليس نكتة تستأهل الضحك أو التريقة أو المسخرة بل تستوجب التوقف طويلا عند ما يفعله العسكر ببلادي، وهو أمر ليس بهدف الحصول على الأموال من تجارة اللبن أو صناعة المكرونة لا. الأمر أعمق من ذلك وهو يستحق فعلا التأمل والتدبر.
ما يجري على أرض الواقع هو نقل اقتصاد مصر تدريجيا من مؤسسات الدولة إلى مؤسسة العسكر استعدادا لأي مرحلة تنتصر فيها الثورة أو الديمقراطية وساعتها سوف يجد الشعب نفسه بلا جيش وبلا اقتصاد، هذه هي المعادلة.
يتسلل العسكر مباشرة أو عبر وكلاء وشركاء عسكريين سابقين أو رجال مخابرات أو عبر تابعين مخلصين إلى كافة المجالات وليس آخرها التعليم أو الصرافة التي قاموا بإغلاق بعضها من أجل إفساح الطريق أمام محلات صرافة تابعة لهم مباشرة للاستحواذ على الدولار والتحكم في سعره بدلا من السوق السوداء، أي إحلال تجار العملات المدنيين بتجار عسكريين لن يجرؤ أحدهم على محاسبتهم وأنى له ذلك؟
يدخل العسكر في مجال تجارة الدواء وليست تصنيعه كما يتمنى البعض وأنا منهم، ويدخلون مجال استيراد اللقاحات والأمصال، وتجارة دعامات القلب والأجهزة والمعجات الطبية والجراحية في منافسة شديدة مع تجار ترسخت أقدامهم في هذا النوع من التجارة لعقود من الزمن، لكن العسكر يدخولون هاليز كافة المجالات ويريدون أن يحصلوا على جزء كبير من كعكة كل سوق استعدادا للساعة التي تحدثت عنها أعلاه.
العسكر يقولون بصوت عال للجميع: إذا أردتم أن تحكموا هذه الدولة فها هي على طبق من فضة، دولة بلا جيش أي أن الجيش ليس تابعا للدولة، ودولة بلا اقتصاد؟ هل يجرؤ أحدكم على تحمل مثل هذه التبعة؟ أروني ماذا بوسعكم أن تفعلوه؟
هذا هو التحدي الحقيقي، وحين كنا نتندر قائلين إن مصر تحولت من دولة لها جيش إلى جيش له دولة لم نكن نعلم فعليا أو بالأرقام أن العسكر مستمرون في مخططهم، وأنهم على أبواب إعلان الكونفدرالية بين دولتهم العسكرية التي تملك السلاح والاقتصاد ودولة الشعب الذي لا يملك سوى البشر، أي أن مصر ستصبح سوقا كبيرة لمنتجات دولة العسكر وعلى الشعب أن يستجيب أو أن يرحل.
المسألة لم تعد الثورة والثورة المضادة، ولا الشرعية والانقلاب، بقدر ما أصبحت أن نكون نحن الشعب أو لا نكون. أن نكون شعبا يملك أرضه ومقدراته وثرواته ومؤسساته أو يصبح رهينة بمحض إرادته لمؤسسة عسكرية تسيطر وتهيمن وتتوغل وتتسرب شيئا فشيئا حتى وصلت إلى الهيكل العظمي للدولة المصرية.
فضيحة لبن العسكر لن تكون الأخيرة، فهم في مسعاهم ماضون ويستعدون لساعة الصفر التي يبدو لي أنها ستكون مختلفة عن انفجار يناير 2011، وإن بدت صعبة، لكنها ليست مستحيلة إن شاء الله.