بداية يجب التأكيد على صوابية قرار إجراء الانتخابات البلدية في موعدها المقرر في تشرين الأول/ أكتوبر القادم، كما على صواب تصحيح حماس لخطئها بمقاطعة الانتخابات السابقة والمشاركة في الانتخابات القادمة التي تملك فيها، كما دائما، حظوظ جدية للفوز. يجب التأكيد أيضاً على الحيوية التي أضفاها القرار على الساحة السياسية
الفلسطينية، ورغم بعض التجاوزات هنا أو هناك، إلا أن العملية الانتخابية تسير بشكل معقول جداً، وعلى كل المستويات الجماهيرية التنظيمية المؤسساتية السياسية والإعلامية.
مع الاحترام والتأييد لقرار إجراء الانتخابات والمشاركة الواسعة فيها، -قرار مقاطعة الجهاد لن يقدم أو يؤخر في ظل الشعبية المتدنية للحركة، وعجزها عن التحول إلى لاعب مؤثر ومركزي في الساحة الفلسطينية-. إلا أن من الضرورة بمكان الإشارة إلى ارتباطها أو علاقتها وتأثيرها ليس فقط على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وإنما المشروع الوطني الفلسطيني بشكل عام، وتحديدا فيما يتعلق بإعادة بناء منظمة التحرير وبلورة استراتيجية لإدارة الصراع مع إسرائيل على أساسها، وهما أمران متلازمان مرتبطان ولا يمكن أصلا الفصل بينهما.
معظم التعليقات القراءات، وحتى التمنيات، أشارت إلى الأمل في أن تكون الانتخابات البلدية فرصة لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية فيما بعد، إلا أن هذا لا يعبر بشكل تام عن المشهد الفلسطيني شكلا ومضمونا، مع الاحترام طبعا لأصحاب النوايا الطيبة والحسنة ممن يتبنون هذا الأمر.
ضمن المشهد الفلسطيني المعقد والمركب، لا يمكن التقليل من أهمية الحزمة الانتخابية الكاملة، إلا أن الحزمة الانتخابية، وحدها غير كافية لإعادة ترتيب جدي للبيت الفلسطيني، وبالتأكيد إنهاء الانقسام وتطبيق تفاهمات ووثائق المصالحة تطبيق أمين نزيه وواقعي أيضا.
ثمة وجهة نظر دعت دائما إلى إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية مباشرة، وفي مدى زمني قصير نسبياً من 100 إلى 200 يوم من أجل إنهاء سريع للانقسام، هذا مستحيل وغير ممكن تقنياً وسياسياً أيضاً، لأن الانتخابات وحدها قاصرة وعاجزة عن فعل ذلك، ناهيك عن إمكانية أن تكون النتائج مماثلة للانتخابات التشريعية الأخيرة والعودة بالتالي عشر سنوات للوراء، وربما حتى إلى نقطة الصفر.
ولأن الانتخابات التشريعية والرئاسية سياسية بامتياز، وتختلف عن الانتخابات البلدية الخدمية وتقتضي بالتالي حزمة تفاهمات سياسية، ليس فقط فيما يتعلق بتهيئة الظروف المناسبة لها، وحل الأزمات التي تواجهها، وإنما بكيفية التعاطي مع مرحلة ما بعد الانتخابات، وتحديدا بلورة استراتيجية وطنية عامة، كما إعادة بناء منظمة التحرير وفق أسس ديموقراطية مؤسساتية وطنية نزيهة وسليمة.
بتفصيل أكثر، لا يمكن إجراء الانتخابات السياسية دون الحزمة السياسية والتنظيمية الكاملة، أو على الأقل وضع أسس لحل المشاكل والملفات الخلافية العالقة التي هي سياسية بامتياز، مثل الموظفين والأمن المعابر ورفع الحصار وإعادة الإعمار والتوافق على حكومة الوحدة الوطنية، ولو بكفاءات حزبية، كما البرنامج السياسي لها وإعادة الحياة والحيوية للمؤسسات السلطوية، بما في ذلك المجلس التشريعي.
لا يمكن إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة دون امتلاك الصراحة والشجاعة والتوقف عن التلاعب بالكلمات والحسم باستحالة إجراء انتخابات للمجلس الوطني بالخارج، والتفاهم على شكل، وليس جوهرا، إعادة تشكيل المجلس الوطني واللجنة التنفيذية للمنظمة بشكل ديموقراطي شفاف ونزيه.
لابد كذلك من الحسم في المهام الوظيفية للسلطة والمجلس التشريعي والاكتفاء بالرقابة على أداء السلطة وأجهزتها المختلفة مع ترك الحسم السياسي في الملفات المصيرية والشائكة لمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الحقيقي الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج أيضاً.
ضمن التوقف عن التلاعب بالصيغ أو دفع ضريبة كلامية، يجب مصارحة الناس أن بالإمكان إجراء الانتخابات للمجلس الوطني في الداخل فقط، وأن المنتخبين سيتولون تعيين أعضاء الخارج وفق المزاج السياسي لانتخابات الداخل وبأغلبية الثلثين على الأقل لضمان أوسع تمثيل سياسي ممكن للفلسطينيين على أن ينتخب المجلس الجديد بدوره لجنة تنفيذية جديدة تتولى قيادة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج على حد سواء.
الخطوات السابقة على أهميتها، وصعوبتها، هي إجرائية فقط والأهم والأصعب طبعاً هو الجوهر المتمثل ببلورة استراتيجية وطنية جامعة لإدارة الصراع مع إسرائيل على أساسها وفق القاعدة التاريخية الصحيحة، القائلة إنه لا يمكن لشعب يبحث عن التحرر وتقرير المصير أن يحقق ذلك في غياب قيادة وبرنامج متفق عليهما وطنيا.
أساس أو قاعدة تلك الاستراتيجية موجود أصلاً، وربما يحتاج إلى تحديث فقط، ويتمثل بوثيقة الوفاق الوطني التي تحدثت عن حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال بكل الوسائل مع التركيز على المقاومة الشعبية الجماهيرية بالتوازي مع العمل السياسي والديبلوماسي عبر منظمة التحرير باعتبارها المرجعية والقيادة العليا بعد إعادة بنائها وإصلاحها كي تضم الكل الفلسطيني.
مع ذلك أعتقد أن الكلام السابق على أهميته، هو عام وفضفاض أيضا، ولابد من الحسم أو التوافق المبدئي تجاه نقطتين أساسيتين، هما العسكرة المتفشية خاصة في غزة وعملية التسوية أو المفاوضات الثنائية التي هي في حالة موت سريري، ولا يمكن ولا يجب أصلا السعي لإعادتها إلى الحياة.
العسكرة أدت إلى تدمير غزة ثلاث مرات في أقل من ست سنوات، ولم تنجح في رفع الحصار، كما لم تؤد إلى تغيير استراتيجي في موازين القوى، وإن أعادت التأكيد ولكن بثمن باهظ جدا على الحقيقة التي خبرناها ونعرفها جيدا والقائلة إن إسرائيل عاجزة عن إخضاع أو هزيمة الشعب الفلسطيني لا في الميدان ولا حتى على طاولة التفاوض.
غزة في حالة دفاعية فقط، وهي كلها بمثابة نفق بالنسبة لجيش الاحتلال الذي لا ولن يفكر في احتلالها مرة أخرى، ومن هنا يجب الانكباب على تنميتها ونهضتها وتطورها والإقلاع عن فكرة أن العسكرة قادرة على تحرير فلسطين انطلاقا من غزة، والاقتناع في المقابل، إن ساحة المقاومة الأساس هي الضفة الغربية، وفي ظل الواقع الراهن وموازين القوى لا مجال لأكثر من مقاومة شعبية مجتمعية متفق عليها، كما هو الحال في القدس أو بلعين نعلين النبي موسى وغيرها.
بموازاة الإقلاع عن العسكرة لابد من الإقلاع عن نهج آخر يتمثل بالمفاوضات الثنائية وعملية التسوية، كما شهدناها في العقدين الماضيين منذ أوسلو حتى الآن والتي باتت في حالة موت سريري ولابد بالتالي من القطع التام معها والتمسك في الحد الأدنى بفكرة المؤتمر الدولي والحل وفق قرارات الشرعية الدولية مع الحد الأدنى المتفق عليه فلسطينيا.
طبعا لابد من الفهم والاقتناع أنه لا حل عسكري أو سلمي أو سياسي للقضية الفلسطينية خلال السنوات، وربما حتى العقود القليلة القادمة، ما يوفر بيئة مؤاتية للعمل على ترتيب البيت الداخلي، واستغلال الانتخابات البلدية للمضي قدما ليس فقط في الحزمة الانتخابية الكاملة، وإنما الحزمة السياسية أيضا عبر التوافق على برنامج وطني وقيادة عليا بشكل ديموقراطي شفاف نزيه وسليم، ومن ثم التوجه لإدارة الصراع مع إسرائيل بحكمة صبر وطول نفس في معركة استنزاف طويلة المدى ولكن بوتيرة منخفضة، وبالتأكيد بعيدا عن نهجي العسكرة والمفاوضات، اللذين عشناهما في العقدين الماضيين وساهما بإيصال الواقع الفلسطيني إلى الحالة السيئة المتردية المنهارة وغير المسبوقة التي وصل إليها.
* كاتب فلسطيني