يُحضِّر بعض السياسيين والمعنيين بالشأن الليبي، من نشطاء ومسؤولين وقادة اجتماعيين، ملتقى للمصالحة الوطنية. كما جاء أيضا على لسان بعض من لهم صلات بالقيادة المصرية؛ أن هناك مسعى لجمع المتنازعين في طرابلس وطبرق مرة أخرى للصلح وإنهاء النزاع. ودون التأكيد لصحة الخبر أو نفيه، إلا أن هناك مؤشرات على تبلور اتجاه مصري مختلف عن مسار التورط مباشرة في الصراع، وذلك من خلال جهد التقريب بين جبهة طبرق والقيادة السياسية والعسكرية في مدينة مصراتة، وهو ما يؤكده تغير مفردات الخطاب تجاه مصراتة مؤخرا، ومغازلتها على لسان عقيلة صالح وخليفة حفتر وبعض المتحدثين باسمهم، من رسميين وغيرهم من الداعمين للدور المصري في
ليبيا.
كنت قد تناولت موضوع
المصالحة الوطنية في ورقة بحثية مستفيضة لا يتسع المجال للتطرق لها هنا، وبالعموم أقول إنه لم يخلُ خطاب سياسي وبرنامج حزب ولا كلمة شيخ من شيوخ القبائل؛ من لفظة المصالحة الوطنية وذلك منذ شباط/ فبراير 2011 وحتى اليوم. ولم تغب المصالحة الوطنية عن كل المبادرات التي تقدم بها أفراد ومجموعات وكيانات لحل الأزمة الليبية منذ شباط/ فبراير 2011، لكن المصالحة لم تتحق على الواقع. وبعض الأسباب معلومة للجميع وبعضها الآخر غير معلوم، وسنحاول الإشارة إليها بعجالة.
العديد من المقاربات التي طُرحت لتحقيق المصالحة اعتمدت على اتجاه تقليدي، من خلال جهود الوساطة والضغط الاجتماعي لإقناع طرفي النزاع بالتصالح. بمعنى أن المصالحة طُرحت مرات عديدة بمعزل عن العدالة الانتقالية، التي تقوم بالأساس على معالجة مخالفات النزاع بشكل يحفظ الحقوق، ولا يسمح بإفلات الجاني من العقاب، ويمهد للمعاجلة الجذرية للآثار المادية والمعنوية للضرر الواقع.
من أهم أسباب إخفاق مقاربات المصالحة الوطنية هي محاولة تمريرها بمنأى عن الواقع الراهن وتجاذباته وتفاعلاته، والنتائج المريرة الناتجة عن تلك التجاذبات والتفاعلات، إذ إن التطورات على الأرض خاصة السياسية والعسكرية في مناطق البلاد كافة لا تزال في عنفوانها، أو بعض منها على الأقل، لكن مقاربة التصالح لم تكن من نوع صب الماء على الحرائق المندلعة وتحقيق التوازن في مقترحات فض النزاع، بل من قبيل تمرير النتائج المرجوة من الأزمة المشتعلة والنزاعات المسلحة هنا وهناك.
إن من بين الأسباب المعلومة لإخفاق المصالحة الوطنية، عدم استعداد الأطراف على الأرض للتصالح. لكن كثيربن لا يدركون أن مفهوم المصالحة مرتبك عند هؤلاء، إذ يعتبرونها مرادفا للتفاوض الذي يفرضون من خلاله أجندتهم، وينظرون فيه إلى الطرف الثاني كخصم ينبغي أن ينتزع منه بالسياسة ما لم يستطيعوا نزعه بالسلاح، وهو ما يعارض مقاربة المصالحة الوطنية، بل ويلغمها، ليكون أي اتفاق صلح قابلا للانفجار في مدى زمني قصير، ولا أدل على ذلك من الاتفاق السياسي الذي تم التوقيع عليه في الصخيرات.
المصالحة الوطنية تعبير عن الاستعداد للتعايش، ورأب الصدع ونسيان الماضي المرير بكل جراحاته وآلامه، والاستعداد لطي صفحته من خلال توفير سبل ذلك سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا، ليكون التعايش والوئام هو الغاية الاستراتيجية، وهو مضمون الخطاب، وهو الأساس في مقاربة الاستقرار في جوانبها كافة. هذا على مستوى المقاربة النظرية والروح التي تقوم على أساسها المصالحة، أما على جانب الآليات والميكنزمات، فإن المتعارف عليه في خطط المصالحة الوطنية وتحقيق السلم الاجتماعي؛ أنه ينبغي أن تتعاضد جملة من الأدوات، وأن يتم التحرك وفق مراحل لا غنى عنها لتحقيق المصالحة ونجاحها، ومن ذلك:
- الشروع الفوري في وقف مظاهر الصراع، وذلك بمثابة صب الماء على النيران المشتعلة وإخمادها تماما.
- معالجة ليس فقط الأسباب الآنية الظاهرة، بل البحث في جذور الصراع والوقوف عليها ومعالجتها نهائيا.
- المسارعة في نقل الصراع إلى حالة تعايش حقيقي من خلال التربيط الاجتماعي والاقتصادي، وجعل حفظ الأمن والاستقرار مهمة مشتركة عبر آليات عملية وفعالة ومتوازنة.
وأخيرا أقول إن المصالحة أخفقت في كل المرات السابقة لأنها كانت مقاربة يقوم بها سياسي أو رمز اجتماعي أو جمعية أو مكون اجتماعي أو كيان سياسي، أو حتى حكومة وجسم تشريعي أو طرف خارجي، لكنها لم تتحول إلى مشروع وطني يشارك فيه جميع من سبق ذكرهم وغيرهم. ومن هنا نقول إن المقاربة الجديدة للمصالحة ستكون عرضة للفشل إذا لم تتحول إلى مشروع وطني حقيقي؛ يدعمه الجميع ويكون للجميع دور مناسب وفعال فيه.