استقرت في الأذهان صورة نمطية للدين أنه مجموعة من التقييدات والتكليفات التي تحد من حرية الإنسان وقدرته على الاستمتاع بحياته والتنعم بأطايبها، هذا ليس تصور رافضي
الدين وحدهم بل حتى كثير من المتدينين رسخ في عقولهم وقلوبهم أن الحرمان والزهد في الحياة وتمجيد الموت والحزن والفقر أمارات الإيمان، بينما السعي في مناكب الحياة والنجاح والغنى والحب والفن والموسيقى هي علامات انشغال المرء عن ربه وإيثاره الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
خطورة الأفكار فيما تشكله من مفاهيم وتصورات ينتج عنها سلوك ونظم، ولو تأملنا تبعات هذه الفكرة لوجدناها في الاحتفاء بالموت والبؤس، وربطه بحقيقة الإيمان ورضا الله عن صاحبه وجعله مقياسا لمحاكمة الأفكار، فلا تناقَش الأفكار بموضوعيتها بل بمراجعة سجل صاحبها من المحنة، فإن كان له نصيب من السجن أو فقد الأبناء أو تدمير البيت نزه كلامه عن الفحص والتدقيق، وإن كان معافى بتقدير الله متبسماً للحياة يشق طريقه نحو النجاح والمجد نُظر إليه أنه من أهل الدنيا وإن صدع برأي في الشأن العام أشهر في وجهه سيف: من أنت حتى تصوب لمن بذل عمره وابنه وماله في سبيل الله؟ هذا يعني أننا جعلنا من المصائب طريقاً وحيدا إلى الله مع أن لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، وفي الحديث القدسي: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى فإن أفقرته فسد إيمانه. تأملوا أن تصير مطالباً بأن يموت أبناؤك ويخرب بيتك وتنزل المصائب على رأسك حتى يمنحك بعضهم شهادة مصداقية ويؤمنوا بحقك أن يكون لك رأي وموقف!
في القرآن مفهوم الابتلاء، لكنه لا يعني أكثر من اختبار صدق الدعوى، وهو متعدد الألوان فهناك الابتلاء بالشر والموت والفقر والمرض وهناك أيضاً الابتلاء بالخير والحياة والغنى والعافية، وقد كان ابتلاء سليمان وذي القرنين بالملك والسلطان: "ليبلوني أأشكر أم أكفر"، وبهذا التنوع النابع من تنوع طبيعة الحياة ذاتها تبطل الصورة النمطية للابتلاء التي جعلت منه مرادفاً للموت والحزن والضيق بكل نجاح وفرح ومتعة، فيصبح الابتلاء هو ممارسة الحياة في كل أحوالها وتقلباتها بنظرة إيجابية متفائلة وقلب شاكر راض.
هل جاء الدين ليحث الناس على صناعة الحياة والتمتع بمباهجها وأطاييبها أم ليدعوهم إلى الانسحاب منها وإقامة المراثي والأحزان في انتظار يوم الحساب العظيم؟
منذ اللحظة الأولى التي هبط فيها آدم وزوجه إلى الأرض قال لهم الله تعالى: "فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، هذه هي غاية الدين بينةً، تحرير الناس من الخوف والحزن، الدين لم يأت ليشق على الناس حياتهم بل ليمنحهم الطمأنينة والسلام والرضا في عالم يموج بالقلق والحزن والعداوة: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"، هذه الآيات تصلح مقياساً لحقيقة التدين بقياس نجاحه أو فشله في تحقيق الأهداف المنوطة به، حين تكون حياة المتدين شقاءً وتجهماً وعبوساً فهذا يعني أنه لم يلامس جوهر الإيمان الذي يحقق
السعادة والطمأنينة، والمؤمن الحق هو الذي يعيش سلاماً وطمأنينة: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" فيفيض بالطاقة الإيجابية ويلهم من حوله النشاط والتفاؤل والسلام.
الإيمان ليس عبئا ثقيلا على النفس بل هو انشراح وسعادة ورضا، الإيمان صفقة رابحة من كافة الوجوه لأنه ليس عملاً مؤجل أجره إلى ما بعد الموت بل يحمل مكافأته العاجلة من جنسه، فهو نظرة تفاؤلية إلى الحياة لا يحرمك من خيراتها ومتعها ولكنه يمدك بقوة الصبر والتفاؤل حين تعبس لك ظروفها، الإيمان لا يقول لك اسع إلى الفقر والحزن، لكن حين يحدث هذا فعلاً، وهو حادث بحكم طبيعة الحياة للمؤمن والكافر سواء فإنه يريك الجانب المشرق الذي يحميك من اليأس والسخط ويحول دون تسلل طاقة سلبية مدمرة إلى كيانك: "عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ".
لا يقول الدين للمؤمنين اعملوا الصالحات وانتظروا المكافأة بعد الموت وحسب، بل يقول لهم: افعلوا الخير وتلقوا مكافآتكم العاجلة الآن: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً"، الحياة الطيبة هي النتيجة الطبيعية الآنية للعمل الصالح: من يؤذي الناس يعيش في وحشة روحية وقلق مدمر ومن يفعل الخير يعيش راضيا مطمئناً: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".
لا يقول الدين للناس اسعوا إلى الموت بل إن القرآن بواقعيته يعده مصيبةً: "فأصابتكم مصيبة الموت"، لكن الذي يؤمن بالحياة الدنيا وحدها يعيش كابوس الفناء حتى قبل أن تأتي ساعة أجله فيقضي عمره أسير الخوف والحرص والقلق مما هو آت والجزع على ما فات، ما يفعله الدين بالتركيز على الحياة الآخرة الباقية أنه يقدم العلاج النفسي الأمثل لحل عقدة الموت وتخليص البشر من هذا الكابوس الثقيل الذي ينغص عليهم نشاطهم الإيجابي في الحياة، وبهذا لا يكون الإيمان باليوم الآخر دعوةً للانسحاب من الحياة، بل هو الذي يطلق الطاقة الإيجابية للإنسان فيها بتحريره من عقدة الموت والفناء.
لم تكن دعوة الأنبياء لأقوامهم أن يتركوا الحياة الدنيا بل أن يراعوا القانون الروحي والأخلاقي الذي يحمي مكتسباتهم فيها من الزوال ويضاعف هذه المكتسبات. دعا نوح قومه إلى الإيمان حتى يرسل الله السماء عليهم مدراراً ويمددهم بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لهم أنهارا، ودعا هود قومه إلى الإيمان ليزيدهم قوةً إلى قوتهم، ودعا محمد قومه إلى تقوى الله ليمتعهم متاعاً حسنا ويؤتي كل ذي فضل فضله، والظلم هو الذي يحرم الأمم من الأمن ورغد العيش: "كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين"، "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ"، بينما الإيمان هو الذي يجلب اليسر والرخاء: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ".
يضرب الله لنا مثل قوم سبأ: "لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور"، "وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ"، حضارة تتمتع بالرخاء الاقتصادي والأمن لم يكن مطلوباً منها أن تترك هذا النعيم وتعتزل الحياة، فالدين لا يضيق بسعادة البشر ولا يريد التنكيد على استمتاعهم، والمتدين الذي يرتكس لمرأى الحياة النابضة يعبر عن عقدة نفسية لا عن روح إيمانية، لم يكن الله يريد من قوم سبأ إلا أن يشكروا النعمة التي أنعمها عليهم، والشكر هو السلوك الطبيعي الذي يديم النعمة وينميها ويعزز الطاقة الإيجابية التي تجذب مزيداً من النعم، فالشكر لمصلحة الإنسان والله لا يريد شيئاً لنفسه: "ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه".
كيف قابل قوم سبأ كل هذه الفيوض من الخير والعطاء: "فأعرضوا"! الإعراض حركة نفسية مشحونة بالطاقة السلبية، ويبدو أن ثمة نزعةً انتحاريةً في النفس البشرية تدفعها إلى أن تضيق بطول العهد بالنعمة فتعمل ضد نفسها وهي ما أسماها فرويد "غريزة الموت"، وفي القرآن آيات عجيبة عن استعجال الإنسان بالشر قبل الخير وبالسيئة قبل الحسنة، الابتلاء ليس دائماً الإصابة بالشر، بل إن من ابتلاء الإنسان أن يظل محافظاً على إرادة الحياة في داخله وألا تخبو طاقته الإيجابية تجاه النعمة فيديم الشكر ولا يسمح بتسلل الطاقة السلبية التي تفقده الرضا وتصيبه بالإعراض والجحود.
الدين دعوة للحياة وللتمتع بمباهجها: "والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج"، "وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ"، "فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّه حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"، حتى الرسل الذين هم أتقى الناس لم يدعهم الله إلى الرهبانية: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً"، وإذا كان قد شاع في بعض المتدينين فقه الأخذ بالأحوط الذي أدى إلى تحريم كثير من الحلال وتضييق المباحات فإن القرآن ينكر على من يحرم الحلال بغير دليل بين: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة"، "قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ"، هذه الآية الأخيرة تغير الصورة النمطية للدين التي تربطه بالقيود والحرمان، فالخسارة الدينية هنا هي ذاتها الخسارة الدنيوية وهي قتل الأولاد سفهاً بغير علم، أي أن الدين مشروع للحياة وكل تضييق على النفس بغير سلطان بين ليس أمارة تقوى بل ظلم للنفس.
لكن ما شأن الصلاة والصيام والحج والجهاد؟ أليست تكاليف شاقةً على النفس؟
الإيمان لا يبدأ بالفروض بل يبدأ من حلاوته التي تلامس شغاف القلوب فتنتشل الإنسان من ظلمات الحيرة والشقاء وتسكب عليه الطمأنينة والسكينة كالماء البارد في ظهيرة يوم حار، فيشعر المؤمن بطاقة عالية من الحب والرضا يقبل بها على خالقه ويتلمس إرضاءه بكل سبيل فتأتي هذه الشعائر لتروي عطشاً روحياً في داخله ويؤديها ليس لأنها واجبات بل لأنها الوسيلة التي يستطيع بها التعبير عن حبه وشوقه كما كان حال النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع الصلاة: "أرحنا بها يا بلال"، وكما كان حال خالد بن الوليد في عشق
الجهاد: "ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بها العدو".
في الدين محرمات، لكن
الحرام يتعلق بالمناهي
الأخلاقية التي يتفق أصحاب النفوس السوية على إنكارها، فالقرآن يحرم البغي والإثم والفواحش والظلم والكذب والخيانة: "وأحل لكم الطيبات وحرم عليكم الخبائث، والحرام استثناء وليس أصلاً: "وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ"، والنفس السوية حتى تحقق سعادتها في الدنيا لا بد لها من ميزان أخلاقي تلزم نفسها به حباً وطواعيةً، لأن إطلاق العنان للشهوات والأهواء لا يجلب سعادة بل لذة مؤقتة تعقبها وحشة وقلق وضنك معيشة وتخبط في دروب الحياة، الحياة الطيبة لا تعني أن يفعل المرء كل ما يهواه، بل أن يعيش بسلام وطمأنينة ويقبل الحياة شاكراً راضيا: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".