يمثّل النجاح الذي حقّقته القوّات العراقيّة ضدّ "داعش" في الفلوجة نصرا عسكريّا وازنا. ولهذا النجاح قيمة معنويّة أيضا. فالفلوجة كانت أولى المدن العراقيّة التي فرض الإرهابيّون عليها سيطرة مكانيّة مُطلقة. وبعدها تجذّر هدف التنظيم بناء دولة الجهل التي توسّعت إلى الموصل ومدن عراقيّة أخرى، بالإضافة إلى الرقّة في سوريا.
وكما مثلّت الفلوجة بداية ظهور "داعش" قوّة همجيّة في "خلافة" تمتلك حدودا وتقمع عشرات الألوف من الناس، يمثّل تطهير المدينة من "داعش" التقدّم الأكبر في جهود إنهاء حقبة السيطرة المكانيّة للتنظيم، وبداية أفوله قوّة عسكريّة، ليعود عصابات متنقّلة لا عنوان واضحا لها.
لكنّ بريق النصر العسكري الذي أنجزته الحكومة العراقيّة يخبو أمام فشلها السياسي والإنساني.
تعرف الحكومة العراقيّة أنّ معركة الفلوجة انطلقت في أجواء مشحونة مذهبيّا، ووسط مخاوف من جرائم واعتداءات على سكّان المدينة نتيجة مشاركة مليشيات "الحشد الشعبيّ" فيها. وتلك مخاوف كانت مشروعة في ضوء ممارسات سابقة لمجموعات في قوى "الحشد الشعبيّ" ارتكبت فظائع بحقّ السكّان المدنيّين السُنّة في مناطق تحرّرت من "داعش" سابقا.
بيد أنّ الحكومة لم تتّخذ ما يكفي من إجراءات للحؤول دون تكرار تلك الفظائع.
كذلك لم تستعدّ الحكومة بشكل كاف لتلبية الاحتياجات الإنسانيّة لألوف المدنيّين الذين كان مؤكّدا أنّهم سيضطّرون إلى ترك منازلهم هربا من القتال، ومن العقوبات الانتقاميّة لـ"داعش" الذي اتخذّهم دروعا بشريّة، وألّف فرق موت لقتل من يحاول الفرار منهم. والنتيجة أنّ عشرات الألوف من سكّان المدينة باتوا مشرّدين لا خيمة تظلّهم، ولا استعدادات تحفظ كرامتهم وتلبّي احتياجاتهم.
وها هي معركة الفلوجة، نتيجةّ لذاك، تنتهي كارثة إنسانيّة.
لا شيء يبرّر فشل الحكومة العراقيّة حماية مواطنيها من براثن الانتقاميّة المذهبيّة والعوز الإنساني. ولا يُمكن الاستهانة بتبعات هذا الفشل على تماسك المجتمع العراقيّ وعلى مستقبل العراق.
فدحر "داعش" عسكريّا خطوة مهمّة نحو استعادة الأمن. لكنّه لا يكفي لإعادة بناء العراق وطنا مستقرّا لكلّ العراقيين. ودليل ذلك في التاريخ القريب: انتصر العراق على "القاعدة" قبل أكثر من عقد، لكنّ السياسات الإقصائيّة والإلغائيّة التي اعتمدتها الحكومة بعدذاك أعادت إنتاج "القاعدة" في شكلها الأقبح الذي يجسّده "داعش".
وإذا لم تستدرك الحكومة قصورها، فتجعل حماية المدنيّين المهجّرين من بيوتهم بسبب قمع "داعش" أو الحرب ضدّه أولويّة آنية، وإذا لم تطلق عمليّة إصلاح تطمئن جميع العراقيّين أنّ نظامهم السياسي منهم جميعا ولهم كلّهم، سيتسلّل الإرهاب عبر القهر واليأس مرّة أخرى. وإذ ذاك سيظهر "داعش" آخر أبشع صورة وأشدّ جهلا وعدميّة.
فالواقع أنّ في تركيبة النظام السياسيّ العراقيّ تشوّهات جوهريّة. أسوأ هذه هي المحاصصة المذهبيّة التي يقوم عليها، والتي إليها تُردّ السياسات الإلغائيّة والإقصائيّة التي اتبعها ساسة هيمنوا عليه، بينما هيمنت عليهم أولويّات إيران التوسعيّة. ولن ينتصر العراق في معركة البناء والتوحّد إلّا إذا أعاد صياغة نظامه السياسيّ على أسس وطنيّة جامعة، تعطي كلّ مكوّنات الشعب العراقي حقوقها، وتُشركها بمساواة في مؤسّسات الحكم وصناعة القرار.
بدأ العبادي حقبة حكمه بوعد الإصلاح. سار خطوات في ذاك الاتّجاه لكنّه توقّف قبل أن يُكمل جزءا بسيطا ممّا هو مطلوب، تحت ضغوط قوى سياسيّة ترى إلى الإصلاح تناقضا مع عقائديّتها التقسيميّة، وانتقاصا من مكتسباتها الانتهازيّة. ورغم أنّ الحديث عن الإصلاح استعاد رمقه قبل أشهر، عاد واندفن تحت ارتدادات الحرب على "داعش"، التي كشفت، مرّة أخرى، عمق المرض المذهبيّ الذي ضرب العراق.
لن يستقرّ العراق ولن يُباد "داعش" وضلاله وظلاميّته إلّا إذا تطهّر النظام السياسيّ من اعتلالات أسسه المذهبيّة. من دون ذلك، سيكون نصر الفلوجة وغيره من الانتصارات على "داعش" كثبانا رمليّة لن تلبث أن تتطاير أمام أعاصير إرهابيّة جديدة، ستستمدّ زخمها من القهر والبؤس والتهميش.
عن صحيفة الغد الأردنية