منذ أن أعلن السادات استعداده الذهاب للقدس المحتلة بنهايات 1977، بدأت تتشكل ملامح التوجه "الرسمي" العربي نحو التطبيع مع الاحتلال، لكن الفارق أن التوجه حينها - وما بعده في كامب ديفيد - استدعى على ما يبدو "إحراجا" رسميا أكثر من كونه غضبا بخلاف التوجهات اللاحقة؛ إذ إن نائب ولي العهد السعودي في عام 1981 الأمير فهد بن عبد العزيز طرح مبادرة من ثماني نقاط في اجتماع القمة العربية تتضمن اعترافا ضمنيا بالكيان المحتل "كل دول المنطقة سيُكفل لهم حق الحماية"، وتم إقرارها في قمة فاس 1982.
والملفت للنظر أن تلك الدعوة وذلك القبول كانا بعد نبذا عربي لمصر ونقل مقرها بسبب توجه السادات منفردا لكامب ديفيد، وكأن رفض سلوك السادات تعلّق بذهابه المنفرد، لا بمجرد المبدأ، ويدلل على ذلك ما ذكره الملك فهد في حواره مع وكالة الأنباء
السعودية عن مبادرته "أغسطس 1981"، ونقل منه باسل عقل قول فهد: "راعينا صدور إعلان المبادئ خلال وجود الرئيس السادات في واشنطن ليعمل على إحياء اتفاقيتي كامب ديفيد، وكان هذا عاملا أساسيا في توقيت صدور الإعلان وللرد على محاولة الإحياء وللتدليل على أن لدى العرب بديلا إيجابيا ومعقولا".
ثم تم العصف بتلك المبادرة تحت وطأة القذائف التي دمرت لبنان على إثر العدوان الصهيوني، وهو بالمناسبة تصرف "إسرائيلي" معتاد عند كل مبادرة، بدءا من زيارة السادات التي استبقها "بيجن" بتفنيد سياساته التي ترفض الانسحاب لحدود 1967، وعدم الاعتراف بدولة
فلسطينية، وعدم إجراء اتصالات مع منظمة التحرير، ولكن السادات ذهب ليصوغ خطابا صاخبا وفعلا منبطحا، وهكذا دأب السلوك العربي في تعامله مع الصهاينة، دعواتٌ للتسليم مقابل صفعات استباقية للاستعلاء وفرض واقع يضيّق من مساحة المفاوض العربي.
لم تخرج السعودية من المشهد الرامي للتطبيع بعد ذلك، فخرج ولي العهد السعودي عبد الله بن عبد العزيز، أيضا بمبادرة السلام العربية، بعد عشرين عاما من المبادرة السعودية الأولى، وتضمنت هذه المرة اعترافا صريحا بدولة الكيان: "إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل".
الآن تدخل المملكة فيما يبدو المرحلة الأخيرة من تلك العملية هذه الأيام، فمنذ التنازل
المصري للمملكة عن أحد أهم المضائق الاستراتيجية، أصبحت الأخيرة لا تحتاج لعقد لقاءات سرية مع "الكيان المحتل"، بل أصبحت مطالبة بالتنسيق معهم بخصوص مضيق تيران، والدخول السعودي أشار له السيسي أثناء لقاء صحفي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر أيلول/ سبتمبر 2015، فذكر ما مفاده أنه يدعو لتوسيع السلام العربي مع "إسرائيل"، ولم يتصور أحد حينها أن كلامه كان إعلانا لموقف يتم ترتيبه بمعزل عن الإرادة الشعبية لكل البلاد العربية.
ثم خطب السيسي خطابا منذ شهر في محافظة أسيوط بالصعيد دعا فيه لإذاعة خطابه بدولة الكيان، ولسلام دافئ معهم، وكان من الملفت للنظر الألوان التي تزينت بها القاعة في حضور كل قيادات الجيش المصري والحكومة المصرية، مما يعني توريطهم أو موافقتهم على ما يتم طرحه من القيادة السياسية في ذلك الخطاب، وتتوارد الآن أخبار عن زيارة مرتقبة لرئيس وزراء الكيان لمصر بعد غياب دام طوال سنوات الثورة.
هذا العرض أشار بإيجاز شديد جدا لبعض الوقائع، ولكن لكل دولة عربية حكايات غير مشرفة عن وقائع تطبيعها العلني والسري، وتمتد الحكايات لما قبل كامب ديفيد وما بعدها، ولكن المذكور هنا تعلق بظرف محدد وجب ذكره لتجميع أجزائه بشكل كلي لا تفصيلي.
إشكالات التحركات الأخيرة عديدة، لكن أهمها أن الكيان دولة عدوانية، ولم تدع تلك الدولة مناسبة لبيان وحشيتها وإجرامها إلا ونجحت في ذلك، من تهجير السكان من أرضهم، وهدم البيوت وتجريف المزارع والاعتقال لمدد طويلة وقتل الرضع والأطفال والنساء والشيوخ، إما عن طريق عصاباتها المسماة بالجيش أو عن طريق المستوطنين الذين يحرقون حتى الأطفال، وهذه الصور بالإضافة لأن الكيان أصلا محتل لأرض ليست له، يقول بأنه لن يقدم سلاما أو تنازلا في أي وقت.
ثانيا تلك التحركات ستضيع الحقوق الفلسطينية إذا أقرت معاهدات مجحفة -كعادة الحكام العرب- خاصة بعدما احتُكرت إرادة الشعب الفلسطيني - الذي لا يقبل سوى باستعادة كامل الأرض المسلوبة - وجُعل أمره محصورا منذ أوسلو بيد قيادات فلسطينية تنعم بالمال وشعبها محتاج، وتعتقل المقاومين، وترضى بالتنسيقات الأمنية مع المحتل، ومن جهة أخرى بيد قيادات عربية يتبارى إعلامها في تشويه الشعب الفلسطيني، وادعاء أنه باع أرضه وأن مقاومته تسعى لتدمير دولهم، فكيف يقومون بصيانة الأرض واسترجاع الحقوق وهم منحازون في تصورهم وينظرون بدونية للشعب المحتلة أرضه؟
ثالثا إن توقيت التحركات متزامن مع وهن عربي عام وانشغال كل دولة في وضعها الداخلي والإقليمي، وهو وقت يثير الريبة عقب سبات عربي طويل، وذكر الأستاذ محمد المنشاوي سبب اختيار توقيت الوهن العربي فقال ما ملخصه إن حاكما عربيا دعا في اجتماع مع منظمات يهودية ومفكرين بمراكز بحثية أمريكية، إلى استغلال حالة الوهن والتشتت العربي لإنهاء قضية فلسطين، وأن الدول العربية "المعتدلة" ستضغط على الفلسطينيين لقبول دولة تقدمها وتصمم حدودها "إسرائيل"، وبرر دعوته لسرعة استغلال الموقف العربي بأن لا أحد يضمن ما سيأتي به الغد.
وفي مقال للأستاذ جميل مطر بالشروق المصرية ذكر المراد من تلك التحركات فقال: "خذ مثلا الرأي القائل في الغرب و"إسرائيل" بأن التحركات الأخيرة للدبلوماسية الدفاعية والسياسية للملكة العربية السعودية تشير إلى أن قرارا ربما اتخذ بالفعل في شأن احتمال عقد اتفاقية صلح أو معاهدة سلام أو بروتوكول صداقة وأمن متبادل أو أي صيغة أخرى تؤدي في النهاية إلى إقامة علاقات دبلوماسية أو سياسية بين إسرائيل ودول الخليج ابتداء بالمملكة العربية السعودية أو انتهاء بها" وقال أيضا: "سمعت وقرأت بوضوح أحيانا وبغموض متعمد في أحيان أخرى أن الدبلوماسية الأردنية تستعد بإجراءات دستورية داخلية وتعبئة دبلوماسية وشعبية لاحتمال أن تستجيب لطلب أو ضغط لإعادة دمج الضفة الغربية، تحت أي اسم، في المملكة الأردنية". السفير الأردني كان منذ أسابيع في احتفال دولة الكيان بذكرى قيامها، وهو ما نسميه "ذكرى النكبة".
هذه الملامح التي تتشكل في مئوية سايكس - بيكو تصوِّر أن مشاكل المنطقة يتم التوجه لوضع حلول لها ستزيد من تعقيداتها وربما إعادة ترسيم حدودها، وما ينبغي إدراكه عند التعامل مع أزماتها، أن قضية فلسطين ستظل القضية الأهم في الوجدان العربي والإسلامي الشعبيَّيْن، وأن الانكباب على المشاكل الداخلية عند الشعوب لا يدل على غفلتهم عن فلسطين، بل الهم الوطني خطوة لأجل الهم العام، ولا أدلّ على ذلك من توجه المصريين لسفارة الكيان الوقح عقب ظنهم أنهم نجحوا في تحرير الإرادة الوطنية، وقيامهم بنزع العلم المستفز من سماء عاصمتهم، وسيتكرر ذلك الفعل كلما سنحت الفرصة له، ولن يتجاوز السلوك الرسمي محدودية أثره عند أول تغيير حقيقي في نظام الحكم من الاستبداد للاستجابة للإرادة الشعبية.